الأحد، 26 مايو 2024

مختصر حكم المعازف ؟!

أكثر مسألة انتقلتُ فيها بين أقوال الفقهاء هي مسألة حكم المعازف إذ أجازها ابن حزم وابن طاهر وغيرهما ومن المعاصرين القرضاوي والشعراوي وجل مشايخ الأزهر وعدد كبير من الفقهاء، وحرمها جمهور أهل العلم قديما ومعظم السلفيين حديثا ومعهم قوم آخرون.


1 - قبل بلوغي السن 12 لم أكن أعلم أن في المعازف كلام أصلا (أي أنها مرحلة الجهل المطلق بالموضوع).
2 - منذ بلوغي السن 12 إلى غاية بلوغي السن 18 اعتقدتُ تحريم المعازف "مقلدًا" للمحرمين نظرا لكثرتهم قديما وحديثا.
3 - منذ بلوغي السن 18 إلى غاية بلوغي السن 20 اعتقدت جواز المعازف وكانت أكثر فترة ناقشتُ فيها المحرمّين ولم أجد في الميدان من ناقشني بنفسه وأقنعني بعكس ما أعتقده.
4 - منذ بلوغي السن 20 إلى غاية بلوغي السن 27 اعتقدت تحريمها وكان أقوى النصوص التي اعتمدتُ عليها حديث (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحرّ والحرير والخمر والمعازف).
5 - منذ بلوغي السن 27 إلى غاية بلوغي السن (ما بين 29 و30) توقفت في الحكم على المسألة وجعلتها فترة بحث متجرد أعيد فيها النظر في كل شيء "طبعا لم يكن وقتي كله مفرغا لهذه المسألة فقد كنت منشغلا بغيرها وإنما كنت أنظر فيها من حين لآخر"، وهنا وجدت تصادما بين النصوص إذ أن كل النصوص لا تدل على تحريم المعازف بل تجيزها عند التحقيق إلا ما لم يصح سنده أو دلالته على التحريم، وبقي النص الذي جعلني أتوقف هو الحديث السابق (ليكونن من أمتي أقوام...).
6 - منذ بلوغي السن 30 ذهبتُ إلى قولٍ مفصّل في المعازف، فهي تتحمل ثلاثة أحكام إذ هي من الملهيات (لهو الحديث) واللهو له ثلاثة أحكام.
فإن ألهى عن واجب صار محرما
وإن ألهى عن مستحب صار مكروها
وإن ألهى عن جائز كان جائزا.
وأما حديث (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) بغض النظر عن مناقشته من حيث الثبوت فدلالته لا تفيد تحريم المعازف بإطلاق حتى مع التسليم بثبوته وذلك للأسباب التالية:
أولا: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن استحلال الحرّ، والحرّ هو الفرج، ويقصد به الجماع، فلو نظرنا لهذا الحديث وحده لكان كل الجماع محرما حتى الجماع بين الزوجين ومع ملك اليمين، بينما يُفهم هذا النص بالرجوع إلى الجماع المقصود بالتحريم وهو ما سبق بيانه في النصوص الشرعية السابقة التي تستثني الزوجة وملك اليمين.
ثانيا: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن استحلالهم للحرير ومعلوم أن هذا النص لو نُظر فيه بمعزل عن بقية النصوص الشرعية لفُهم منه تحريم الحرير على الرجال والنساء معا ومعلوم أن الحرير حرام على الرجال دون النساء، وحتى في الرجال يوجد خلاف وتفصيل حول الفرق بين لبس الحرير الخالص ولبس الحرير المختلط ونسبة الحرير فيه، وكل هذا لا يمكن بلوغه إلا بعد الرجوع لبقية النصوص الشرعية.
ثالثا: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم استحلالهم للخمر رغم أن الخمر المحرم هو ما علل بالإسكار وقد خرج منه ما لم يكن مسكرا كالخل، وهذا الموضوع أشهر مثال يضربه الأصوليون لشرح قاعدة "الحكم المعلل يدور مع علته وجودا وعدما".
رابعا: كذلك المعازف عند النظر في هذا النص نعلم يقينا وجوب وجود نص سابق له يشرح مسألة المعازف ويفصلها، إذ لا يمكن أن يكون النص الوحيد الدال على التحريم هو نفسه النص الذي ينكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم على المستحلين (إذ لا بد من التحريم أولا قبل لوم المستحلين وذلك ما كان في الأحكام الثلاثة السابقة) ومنه وجب علينا البحث في النصوص السابقة لنعرف التفصيل في الحكم الرابع كما عرفناه في الأحكام الثلاثة الأولى، ولو أننا نظرنا إلى هذا النص بمعزل عن بقية النصوص سنحكم على الأحكام الأربعة بالتحريم بلا أي تقييد أو تخصيص.
فما هي النصوص التي نرجع إليها ؟.
قول الله عز وجل ((ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين)).
ومعلوم أن كلمة (لهو الحديث) معناها الغناء إذ قال ابن مسعود عنها (والله الذي لا إله إلا هو إنه الغناء)، فيصبح معنى الآية (ومن الناس من يشتري "الغناء" ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا ...) لأننا عوضنا كلمة (لهو الحديث) بمعناها (الغناء).
فتصبح المذمة في الغناء عندما يُستعمل للإضلال عن سبيل الله واتخاذه "أي سبيل الله" هزوا، كأن يريد صرف الناس عن طريق الحق والواجبات بالغناء فيكون ملهيا مضلا عن سبيل الله فيكون حكمه التحريم.
وإن استعمل بنية الإضلال عن سبيل الله (الصد عن ركن الدخول في الإسلام) صار كفرا لأن الهدف منه إبعاد الناس عن سماع حجة المسلمين كي لا يدخلوا فيه.
فإن ألهى عن مستحب صار مكروها (كأن يريد الفرد قراءة القرآن تطوعا فيقول: لعلي أستمع للموسيقى) فهنا تسببت الموسيقى بتضييعه أجر القرآن ولكنه لم يكتسب إثما بسبب عدم قراءته للقرآن في تلك اللحظة، إنما يكون الوزر على من هجر القرآن (أي ترك جنسه) وهناك فرق بين ترك الجنس وترك آحاده.
فإن ألهت المعازف عن شيء جائز كأن يسمع لها بدل أن يلعب أو يتمشى أو يجلس صامتا فحكمها الجواز.
ومن الناحية العقلية فالمعازف مجرد موجات صوتية ناتجة عن تحريك الأجسام للهواء وبالتعبير العلمي فكل شيء يصدر صوتا يمكن أن نعتبره عازفا له، وبهذا المعيار يصعب جدا ضبط حد جامع مانع للمعازف.
هذا مختصر الحكم الذي توصلت إليه، أما مناقشته بالتطرق لجميع النصوص التي يوردها المحرمون والمجيزون والرد على دعاوى الإجماع التي ذُكرت فيها أكثر من خمسين دعوى فهذا قد أخصص له مقالا آخر أو بثا مباشرا.
#ملاحظة: النقاش الميداني في الفقه أعلى بكثير من المستوى الذي ينقله بعض المحرمين وينسبونه إلى خصومهم مثل قول رسلان (وقد استدل شخص نسيت اسمه على جواز الأغاني بقوله لو كان الغناء حراما لما سمى النبي صلى الله عليه وسلم ابنته أم كلثوم) لينشط أتباعه في نشر كلامه في كل مكان حتى يوهموا الناس أن الخلاف بهذه السذاجة حتى يصنعوا قبعة قش وهمية لأدلة مخالفيهم لغرض تسفيه قولهم وتزييفه، والمشكلة أنه لم يعرف أحد استدل بهذا الكلام وقد يكون رسلان هو الذي اخترعه من رأسه أو أنه نقل كلام أحد العوام ليورده لي معرض الرد على مجيزي الموسيقى.