الجمعة، 12 نوفمبر 2021

الخلاف في حكم الموسيقى والغناء في ميزان الشريعة الاسلامية؟!

 “أغلق هذا البرنامج ففيه موسيقى”، “لا تشاهد برامج هذه القناة على يوتيوب”، “لا أستطيع نشر هذا الفيديو مع أنه مفيد بسبب الموسيقى في الخلفية”، “إيّاك أن تحدِّث فلانًا، فهو يستمع إلى الموسيقى ويبيحها”، جمل كثيرة -من هذا القبيل- يعترض بها من يحرّمون قبول أي مادة تحتوي أصوات آلات موسيقيّة تحت أي ظرف.

الخلاف في حكم الموسيقى والغناء في ميزان الشريعة الاسلامية؟!

 



تستهدِف هذه المقالة الوقوف عند هذه القضيّة –حكم الموسيقى والاستماع لها- والبحث في خلفيّاتها الدينيّة والشرعيّة، لتبيين مقدّمات مهمّة ونتائج حُكميّة مبنيّة عليها، نظرًا لما يعتري هذه القضيّة من تشابك في الآراء وتراشق في الاتهامات تجاه محرميها ومحلّيها.

التمييز بين السماع والاستماع
تشير الزيادة اللغوية في الاستماع إلى وجود القصد والنية، بينما لا توحي مادة “سماع” بالنيّة والقصد[1]، ومن ثمّ فقد تنبّه الفقهاء في خضمّ الخلاف حول حكم الموسيقى إلى أنه لا بدّ من الوقوف عند قضيّة القصد للاستماع وعدم القصد إليه، وهو ما يعرف في أبواب الفقه بالفرق بين السماع والاستماع، حيث لا يحرّج محرّمو الموسيقى على المرء أن يتعرّض دون قصدٍ منه لسماع بعض الأصوات الموسيقيّة، وينصبُّ تحريمهم واستدلالهم على إثبات حرمة العزف والقصد لاستماع هذه الآلات، فالاستماع يتضمّن الإصغاء وبالتالي فإنه يتضمّن القصد لسماع الموسيقى والغناء، وهنا يتفق محرّمو السماع إلى الموسيقى على حرمة هذا الفعل والاستمرار فيه، وذلك بناءً على تخصيص النهي الوارد في أحاديث الموسيقى على أنها مخصوصة بالاستماع لا السماع، فلو مرَّ رجل بقوم يتكلّمون بكلام محرَّم: لم يجب عليه سدّ أذنيه –بتعبير الإمام ابن تيميّة رحمه الله- إلا أن عليه أن لا يستمع إليهم من غير حاجة، ويعلّل الإمام بهذا أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يأمر ابن عمر –رضي الله عنه- بسدِّ أذنيه حين سمع زمّارة الراعي؛ لأنه لم يكن مستمعاً، بل سامعاً[2].

ويمكن إيراد نصٍّ ههنا لابن قيم الجوزيّة يفرّق فيه بين السامع والمستمع، فالسامع بتعريفه هو “الذي يصل الصوت إلى مسامعه دون قصد إليه، والمستمع المصغي بسمعه إليه، والأول غير مذموم فيما يذمّ استماعه ولا ممدوح فيما يمدح استماعه”[3].

وبناء على هذا نجد فتوى مهمّة للجنة الإفتاء الدائمة بالسعودية في عهود سابقةٍ تشير إلى الفرق بين الأمرين ولا تحرّج على الأوّل، حيث عرّفت السماع بأنه ما يَرِد إلى السمع من غير الشخص نفسه كالموسيقى في المواصلات العامة وفي الطائرة ومن بيوت الجيران أو من المارّ في الطريق أو من الهاتف حين الاتصال بالاستعلامات أو ببعض الشركات والخطوط الجوية للحجز، وأمّا ما يكون منه أو من الأجهزة التي تحت تصرفه: فإنه الاستماع ولاشكّ؛ والسماع للمنكر الذي يصدر من الغير ولا يمكن إيقافه فإنه لا يلزم سد الأذنين عنه، وأما ما يصدر من الشخص ذاته فيحرم عليه استماعه، فظهر الفرق بينهما[4].



حكم الموسيقى
في هذا المعرض –قبل البَدء بمدارسة آراء الفقهاء حول الاستماع- ثمة أمور يجب التنبه إليها أثناء البحث عن أي حكم فيه تعبُّدٌ ربّاني، بمعنى أنه مطلوبٌ إلهي بالأمر أو النهي والحل والحرمة، وقضيّة الموسيقى داخلة في هذا الوصف، وهو ما نراه من خلال الأحكام التي يطلقها الفقهاء والأكاديميون المتخصصون في الدراسات الشرعية حول “تحريم الموسيقى، أو إباحتها، أو حلّها”.

وهنا يجب التأكيد على أن الأحكام الشرعيّة لا تثبت إلا بـ “النص القطعي الصريحِ من الكتاب والسنة”، أو من خلال “الاجتهاد فيما ورد به النص من الكتاب والسنة”، ولذلك فإن العلماء يبنون مذاهبهم الفقهية بناءً على رأيهم في النصوص التي وردت إليهم، وإصابتهم الحق أو خطؤهم عائدٌ إلى صحة الاستدلال والفهم، ولذلك تكون الآراء الفقهية متساوية في درجتها المذهبية فيمكن لأحد أن يقول بها اليوم ثم يرجع عنها فيما بعد بسبب ظهور علة في الدليل أو دليل آخر في ذات المسألة.

ولذلك لا بدّ من التنبيه إلى أن الحكم الفقهي يؤخذ من موردين:

1- ثبوت النقل في الدليل النصي عن النبي صلى الله عليه وسلم.

2- صحّة دلالة النصّ على الحكم المبيّن أو المستدَلّ عليه.

هاتان المقدمتان أساسٌ في تصحيح البرهان والدليل الفقهي أو رفضه، وهذا ما سنحرص على التأكُّد منه في خطواتنا الآتية.



أولاً: تعريفات لا بد منها:
اعتنى الفقهاء في القرون السابقة بمبحث الغناء والموسيقى تحت مصطلح “السماع” وذلك اختصارًا للمسألة.

تعريف الغناء: هو الصوت الذي يُطرَّب به[5]، وقد يطلق به على صوت الحمام، أو صوت الإنسان الملحّن، ومنه الترنّم أي تطريب الصوت[6].

يقول عبد الله يوسف الجديع في كتابه “الموسيقى والغناء في الميزان”: “والحاصل أن الغناء صوتٌ يوالى به مرة بعد مرة بتلحين وتطريب، ولذا تسمّى أصوات الموسيقى غناء وآلاتها آلات الغناء”[7].

وهناك أسماء أخرى لهذا الفعل لا طائل من ذكرها وتفصيلها، مثل الهزج، والسناد، والنصب.. إلخ، وهو مرتبط بنوع الغناء والكلام الذي فيه.

الموسيقى: هي لفظٌ يطلق على فنون العزف على آلات الطرب، والأصل في العزف هو “الابتعاد” و”الانصراف” عن الشيء، فيقال: عزفتُ عن الأمر، أي تركته[8]. كما يطلق على الصوت، فيقال عزف الرياح، عزف الدفّ[9]. ويطلق على آلات الموسيقى “المعازف” أو الملاهي، سواءً كانت آلات وترية أو آلات هوائية “نفخية” أو آلات الضرب كالطبل والدف[10] .

للاستزادة
اقرأ كتاب “الغناء وما عسى أن يقال فيه من الحظر أو الإباحة” للشيخ عبد الله بن زيد آل محمود.
ثانيًا: مقدمات فقهية:
هناك قواعد عامة مهمة في الأبحاث الفقهية من أهمها الآتي:

1- الأصل في الحلال والحرام التوقُّف فيه على ما جاء به النص البيّن في كتاب الله وسنة نبيِّه، ومن ذلك الاستدلال بآية “قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ “[يونس: 59].

2- أصل النظر والتعامل في الموسيقى والغناء على أنها قضيّة عاديّة لا تعبُّدية، والأصل في القضايا العاديّة الإباحة والحل. وهذا التعليل يستند إلى عدة أمور، أولها أنها تستند على نص قرآنيٍّ واضح: “خلق لكم ما في الأرض جميعًا” [البقرة: 29]، أما الثاني: فهو دخول الموسيقى في باب الزينة، والأصل في الزينة الإباحة، ويمكن الاعتماد في هذا الأمر على قوله تعالى: ” قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون” [الأعراف 32]، ووجه التعليل هنا هو أن الصوت الحسن الصادر عن الموسيقى والغناء من الجمال الذي ترتاح إليه النفس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “حسّنوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حُسنًا”[11]، إضافة إلى أن الموسيقى من أبواب الطيبات، وقد قال تعالى: “قل أحل لكم الطيبات” [المائدة: 87]، وغير ذلك من الآيات التي تشير إلى أن أصل الطيبات هو الإباحة.

3- لا بد من التنبُّه إلى أن الشريعة بيّنت كل ما فيه ذريعة إلى الحرام، فإذا توفّي النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وثمة باب مفتوح منها، فلا يملك أحد أن يغلقه.

4- لا يحلّ بناء الأحكام على الأحاديث الضعيفة، وهذا أصل مهم يجب إدراكه.

5- يبنى تفسير الأدلة في الدرجة الأولى على النصوص التي توضحها، ويقدّم في هذا الباب تفسير الصحابة اللغويُّ على تفسير من جاء بعدهم.

6- لا يعتَمَدُ في الحكم على منزلة الشخص “صحابي، تابعي، عالم” وإنما يعتبر الحكم بالدليل المبنيّ عليه.

7- تركُ النبيّ لمسألة ما لا يدلُّ على تحريمها، فقد تكون لطبعهِ الشخصيّ أو لكراهةٍ منه لها، ويجب على المسلم اتباع النبي في التركِ بما نصّ على حرمته صراحةً.

8- الإخبار عن الأمور في المستقبل لا يدلُّ على الحرمة، بل قد يرد مورد البيان الذي ستؤول إليه الأحوال، ويحتاج كلُّ حديث فيه إشارة إلى خبرٍ مستقبلي إلى دراسة تبين تفاصيله بالأدلة المجردة لعموم المسألة لا الأحوال الخبرية المنصوص عليها فيه فقط[12].



ثالثًا: أصل حكم الشرع بالأصوات.
إن صوت الموسيقى جزء من الأصوات التي تنتشر في الطبيعة، وطبيعة الصوت بحد ذاته، دون ارتباطه بعوارض أخرى، لا تحرّم بل يجري عليها حكم الإباحة، سواءً كان صوت بشرٍ أو حيوان أو آلة، وبما أن الأصوات الحسنة تؤثر في طباع العقول والأذهان، وتؤثر في المرضى ومزاج البشر بحسب أنواعها، فإن الأصل حلُّه في الشريعة، وذلك اتباعًا لقواعد الفقه وأصوله، فالحكم الأوليُّ في تأصيل كل لذّة أنها على الحلّ ما لم يرِد نصٌّ قرآني أو نبويٌّ صريحٌ في تحريمها[13].

وللحديث بقية في الجزء الثاني بإذن الله. هنا

https://fatawaeslam.blogspot.com/2021/11/blog-post_74.html