نقل الإمام الشوكاني قول العلامة الفاكهاني: "لم أعلم في كتاب الله ولا في السنة حديثاً صحيحاً صريحاً في تحريم الملاهي (يعني الآلات الموسيقية) وإنما هي ظواهر وعمومات يستأنس بها لا أدلة قطعية" (الشوكاني: نيل الأوطار جـ 8/104)، وبنفس هذا القول قال الإمام العلامة بن حزم والإمام المجدد أبوحامد الغزالي.
إن هذه المادة هي تتمة للبحث حيث عرضنا في الجزء الأول حديث الجاريتين عن عائشة رضي الله عنها في الصحيحيين وغيرهما.
نكمل:
الدليل الثاني: :/>
عن بريدة الأسلمي رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء، فقالت: يا رسول الله، إني كنت نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن كنت نذرتي فاضربي، وإلا فلا"، فجعلت تضرب. (حديث صحيح، أخرجه أحمد (5/353، 356) والترمذي (رقم 3691) وابن حبان (رقم 4386) والبيهقي (10/77) وأبوداود (3312) وغيرهم)./>
والحديث فيه تتمة مشكلة "... فجعلت تضرب، فدخل أبوبكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم دخل عمر، فألقت الدف تحت استها ثم قعدت عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالساً وهي تضرب، ثم دخل أبوبكر وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف".
إن هذه المادة هي تتمة للبحث حيث عرضنا في الجزء الأول حديث الجاريتين عن عائشة رضي الله عنها في الصحيحيين وغيرهما.
نكمل:
الدليل الثاني: :/>
عن بريدة الأسلمي رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء، فقالت: يا رسول الله، إني كنت نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن كنت نذرتي فاضربي، وإلا فلا"، فجعلت تضرب. (حديث صحيح، أخرجه أحمد (5/353، 356) والترمذي (رقم 3691) وابن حبان (رقم 4386) والبيهقي (10/77) وأبوداود (3312) وغيرهم)./>
والحديث فيه تتمة مشكلة "... فجعلت تضرب، فدخل أبوبكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم دخل عمر، فألقت الدف تحت استها ثم قعدت عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالساً وهي تضرب، ثم دخل أبوبكر وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف".
قال الشيخ الجديع: قلت: فهذا الحديث حجة قوية في إباحة العزف والغناء بغير محذور، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصيه" (رواه البخاري ومالك وأحمد وأبوداود والنسائي والترمذي وابن ماجه). وقال: "لا نذر في معصية الله"، وفي رواية: "لا وفاء لنذر في معصية" (رواه مسلم وأحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والدارمي). فلو كانت هذه المرأة نذرت محرماً لما أذن لها النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء به، وإنما أذن لها به لكونها نذرت مباحاً ..
وهذا من أبلغ ما يكون في رد زعم أن العزف بالدفوف والغناء لا يحل إلا في عرس وعيد، فلم تكن هذه المناسبة عيداً ولا عرساً. قد جمع الكل معنى السرور؛ فالعرس والعيد وقدوم الغائب العزيز مناسبات سرور، فأبيح فيها العزف والغناء من أجل هذا المعنى .. (الجديع، الموسيقى والغناء في ميزان الإسلام ص222-223).
وهذا من أبلغ ما يكون في رد زعم أن العزف بالدفوف والغناء لا يحل إلا في عرس وعيد، فلم تكن هذه المناسبة عيداً ولا عرساً. قد جمع الكل معنى السرور؛ فالعرس والعيد وقدوم الغائب العزيز مناسبات سرور، فأبيح فيها العزف والغناء من أجل هذا المعنى .. (الجديع، الموسيقى والغناء في ميزان الإسلام ص222-223).
إن الإشكالية في الحديث هي في قوله لعمر "إن الشيطان ليخاف منك" في مثل هذا الموضع. إن هذه الفقرة من الحديث إما علة في المتن أو زيادة من الراوي من حديثين مختلفين أو لغة دارجة بين الحجازين. إن المقصود بالعلة في المتن هي اضطراب في كلام الراوي؛ فالحديث الصحيح هو ما ما نُقل عن العدل الثقة بسنده متصلاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم من غير علة ولا شذوذ. لهذا التعريف 6 شروط: 1- اتصال السند 2- عدالة الراوي 3- ثقة الراوي 4- نهايته للنبي صلى الله عليه وسلم 5-خلوه من الشذوذ 6-خلوه من العلة. الأخيرتان صناعة دقيقة جداً لا يتقنها إلا كبار العلماء مثل البخاري والدارقطني وأمثالهما، أما الشروط الأولى فقد يتقنها محدث متمكن. مثال ذلك أن يخالف الحديث آية قرآنية أو حديث متواتر فهنا يدلك أن في الحديث علة وشذوذ. فلو صحت الزيادة هذه بفقرتيها (وهو كذلك وفقاً للمختصين) فهذا يعني أن هناك تأويلاً مختلفاً لما قد يظهر من المعنى. لأن ظاهر المعنى أن الشيطان كان موجوداً مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ففر لما رأى عمر رضي الله عنه، وهذا يستحيل، كون هناك رجلان أفضل من عمر ورجلان فاضلان من أعلى فضلاء الأمة. فلا يعقل أن الشيطان فر من عمر لكنه تقوى في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعثمان وعلي. هذا يقوله من قل علمه واختلت عنده الموازين. وبعض العلماء والمشايخ يستدلون به من هذا الوجه، وهو خطأ عقدي مخل.
والمعنى قد يكون أن لكلمة "شيطان" في الحجازية معنى مخفف. والحجازية هي لغة القرآن الكريم ولغة السنة النبوية الأصيلة والحكم لها في النهاية. مثال: أن القرآن في سورة يوسف يقول: (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (يوسف/31) ولا يقال في اللغة العربية الدارجة وقواعدها (ما هذا بشراً) بالفتح وإنما يقال (ما هذا بشرٌ) بالضم. لكن أهل الحجاز وقتها يلفظونها هكذا، ولذا سماها العلماء "ما الحجازية" والتي تنصب في لغة الحجازيين. من لا يفهم هذا يُخطأ القرآن الكريم ويضن أنه خطأ في قواعد اللغة وإعرابها. مثال آخر مختلف: القرآن الكريم يقول: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) (النساء/34) فهنا أمر بضرب النساء في حالة النشوز، وهناك أحاديث صحيحة كثيرة نهت عن ضرب النساء وشددت بكون هذا الفعل مشين وأن صاحبه ليس خيّراً. فكيف السنة تخالف القرآن؟ والجواب: أن الضرب هنا في القرآن بلغة أهل الحجاز؛ فأهل الحجاز لا يضربون نساءهم، وهذا عندهم يخدش بكرامة الإنسان، لكنهم يقولون الضرب للسعي والتأديب والتعليم، كقوله تعالى: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) (المزمل/20) وهذا لا يعني ضرب الأرض بل مجازية تعني السعي في الأرض. وكما في حديث أبي سعيد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها ولا يدع أحدا يمر بين يديه فإن جاء أحد يمر فليقاتله فإنه شيطان". (رواه ابن ماجه وهو عند البخاري وغيره). فلا يعتقد إنسان أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد أن يقتله، والعياذ بالله. فلا يُقتل الإنسان بكونه يصر أن يمر بين يدي المصلي! وإنما في اللغة "قاتله" غير "اقتله". والمقصود ادفعه أو رده، وهو موضوع إجماع بين كل العلماء في التاريخ، لم يقل منهم أحد بجواز قتل المار بين يدي المصلي، بل لو فعل شخص ذلك لجاز قتله حداً لأنه قتل نفساً بريئة، وفي العادة يحكم عليه القاضي بالإعدام لجرمه.
لهذا فيقيناً أن المقصود مختلف في الحديث وهو أن "الشيطنة" كما هو الدارج في اللغة اليوم واللهجات يعني اللعب والمرح فاستخدمها النبي صلى الله عليه وسلم ودمجها مع كون الشيطان يفر منه. ولا شك أن الشيطان كذلك يفر من النبي صلى الله عليه وسلم ومن أبي بكر ومن عثمان ومن علي رضي الله عنهم جميعاً. ولاحظ في الحديث الآخر الذي ذكرته أيضاً في المرور بين يدي المصلي لفظ: "فإنه شيطان" ولا يعقل أن يكون الإنسان أو الحيوان شيطان، أي أبليس، ولكن شيطان بهذا التصرف غير السليم، مع ذلك فهو مسلم ومحترم كإنسان وبشر. فاستعير بكلمة "شيطان" هنا كذلك لتعزيز المعنى وتقويته والتنفير من فعل ذلك تعمداً. والناس تقولها أحياناً: "فلان شيطان" وهي تضحك أي ذكي أو حيّال أو فطن أو كثير الحركة.
وحتى لو كان المعنى أن الشيطان جاء ليستمع معنا إلى غناء المرأة - رضي الله عنها - وجلس معنا فلما جئت يا عمر فر، فهذا لا يدل بحال على أن الغناء والعزف حرام. لأن هذا خدش في الاعتقاد كذلك أن تعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم يصر وأبوبكر وعثمان وعلي رضي الله عنهم على الحرام! بينما يكون صاحب التقى عمر رضي الله عنه.
ومع ذلك فسنأتي بالدلائل عن عمر رضي الله عنه في سماع الغناء لاحقاً بإذن الله من الآثار الصحيحة. (تأكد من شيء أني لن أنقل لك آثار وأحاديث غير صحيحة، إلا إذا وضحتها، كما يفعل من يستدل بالتحريم عندما نناقش أدلتهم. أنا أقتصر على الأحاديث والآثار الصحيحة فقط رغم أن هناك مئات المرويات غير الصحيحة).
ونستفيد من هذا الحديث التالي:
جواز غناء المرأة أمام الرجال. فهذه إمرأة، وليست طفلة، والمستمعون لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوبكر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
جواز غناء المرأة أمام الرجال. فهذه إمرأة، وليست طفلة، والمستمعون لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوبكر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
جواز سماع الأخيار من الناس للغناء والعزف. قل لي بربك من أخير منهم؟!!!!
جواز الغناء بالضرب. أي باستخدام آلة معينة للغناء، وهنا أستخدم الدف.
جواز الغناء في المناسبات السعيدة وقدوم المسافرين وفي غير العيدين، فهنا ليست مناسبة عيد.
جواز تحدث المرأة مع الرجل في المكان العام. وصوتها ليس عورة ولا حديثها مع الرجل.
جواز احتفال المرأة بالرجل من باب سلامته أو فوزه أو نصره. فهذه إمرأة أجنبية للنبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك نذرت لسلامته.
جواز الإطالة في الغناء، كون هذا الغناء لم يكن لثواني أو دقائق بسيطة، فالحديث يشير إلى أنه سمعها ثم جاء أبوبكر ثم جاء عثمان ثم جاء علي ثم جاء عمر، فهذه دلالة على طول الوقت.
تغير رأي أبي بكر رضي الله عنه عن موقفه السابق؛ لأنه لا يحتمل أن يكون هذا الحديث قبل حادثة غناء الجاريتين في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا لأنكر هنا كذلك. لكنه لما أنكر هناك وصوبه النبي صلى الله عليه وسلم قبل وعرف فسكت هنا. وأبوبكر رضي الله عنه رجل وقاف عند كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا دليل آخر على وجود الغناء في بيئة ومحيط الصحابة وبإقرار سيد الخلق صلى الله عليه وسلم .. وستأتي التتمة ..
ملاحظة: أطلب من البعض ألا يستعجلوا في رد الحديث، فقط مناقشة الحديث نفسه. سنأتي لمناقشة كل الأدلة التي ترى التحريم، وهي من قبل أناس محترمين كذلك ومقدرين ورأيهم محترم، لكننا سنفندها واحدة واحدة بالدليل والبرهان، ولا تُرد الحجة إلا بالحجة ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق