في حضارتنا لم يعرف أن هناك مشكلة حول كثير من الأمور الفرعية التي نختلف حولها اليوم .. وذلك لأن التكامل والتوازن والانسجام بين عناصر الحياة كانت سمات واضحة في تصور كل مسلم ، وهو يرى دينه ناضحاً بها مترجماً عنها في كل تشريعاته .</p><p>فلما اختلطت المفاهيم ، وأسقطت على التصور الإسلامي الصحيح نزعات وأهواء ؛ جنح بعضهم إلى التفريط مسايرةً للأوضاع ، ومال آخرون إلى التحريم سداً للذرائع ، حتى ولو أدى ذلك إلى إفساد التصور الإسلامي للحياة ، وتحويله إلى مجرد ممنوعات ومحرمات ..</p><p>والإسلام (بناء تام الصنعة) ـ كما وصفه بعضهم ـ وهو يقوم على هندسة محكمة ونسب متوازنة؛ تُعطي كل شيء حقه وحجمه وإطاره الذي لا يتجاوزه ... ولو راعى الفقهاء والمفتون هذا البناء الدقيق وطبيعته المتوازنة ، وقدرته على تغذية كل الجوانب: العقلية ، والعاطفية والنفسية والفردية والاجتماعية ، .. لو فعلوا ذلك لوجدوا أنفسهم ـ في نهاية المطاف ـ لا يختلفون إلا في المصطلحات ، وفي "تحديد الحالات" موضوع البحث .... وهم متفقون ـ فيما سوى ذلك ـ لأنهم يصدرون عن دين واحد؛ يعتمد على مصادر يؤمن بها الجميع وينطلق منها الجميع ، ويهدفون إلى غاية واحدة ، وهي معرفة حكم الله . ففيم الخلاف إذن؟ !!</p>وهذا الملف الفقهي عن الغناء والموسيقى واحد من أقوى الأدلة على سلامة هذا المنهج الذي نأمل أن يصل فكرنا الفقهي إليه .
*******************
أدلة المحرمين للغناء:
في القديم والحديث وجد من ذهبوا إلى تحريم الغناء والموسيقى تحريماً أقرب إلى أن ينتظم كل أنواع الغناء وضروب الموسيقى؛ اللهم إلا ما كان من الغناء دينياً أو حماسياً وبدون آلات .
أما الغناء في غير هذين البابين فهو لا يباح عند هؤلاء إلا في الأعراس ـ لضرورة إعلان النكاح ولإشاعة السرور في هذه الليالي المخصوصة ـ كما يبيحونه ـ استثناءً أيضاً ـ في الأفراح الشرعية كالأعياد الإسلامية ، وربما في مواليد الأطفال وما يشبه ذلك من مناسبات احتفل الشرع بها ، وأقرّ الاحتفاء بها ؛ فقد روى الخمسة إلا أبا داود قولـه صلى الله عليه وسلم : "فصل ما بين الحلال والحرام الدفّ والصوت في النكاح"...
وروى ابن ماجة قوله صلى الله عليه وسلم : "أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال" .
وفي لفظ أنس بن مالك رضى الله عنه قال : "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لعبت الحبشة لقدومه فرحاً بذلك" .. إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في هذه الحالات المخصوصة .
وباستثناء هذه الحالات ـ ونظائرها ـ لا يبيح هؤلاء الغناء ، ويرون أنه محرم ، مستندين على تفسيرهم لآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) (لقمان "6" ) ، بأن المقصود باللهو هو (الغناء) ؛ وهو تفسير اعْتُرِضَ عليه كثيراً في القديم والحديث ، ثم إنه مربوط بالإضلال عن سبيل الله ، وكل وسيلة تتخذ للإضلال عن سبيل الله حرام ... حتى ولو كانت حلالاً في ذاتها...
كما اعتمد هؤلاء المانعون للغناء على عدد من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى آراء كثير من فقهاء المذاهب الذين ربطوا بين الغناء وبعض الموبقات المرتبطة به كالاختلاط وتعري النساء وإشاعة المباذل ، ووجود المسكرات .
وكان لهؤلاء عذرهم ـ في القديم والحديث ـ فقد ارتبط هذا الفنّ بهذه الوضعية وأصبح لصيقاً بها ، كما أن المشتغلين به عرفوا بالتحلل في جلّهم إن لم يكن كلهم ...
لكن ما نبحث عنه هنا هو الحكم الشرعي الأصلي في الموسيقى والغناء ، دون أن نربط بين الغناء والموسيقى وما يتعورهما من أوضاع ، فهذه الأوضاع تجعل التحريم تحريماً لغيره ، لا لذاته . ونحن هنا نبحث عن حكم الغناء في ذاته.
<p>ومن الأحاديث التي اعتمد عليها القائلون بالمنع الأحاديث التالية:</p><p>1ـ روى البخاري في صحيحه عن ابن مالك الأشعري رضى الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر (الفروج) ، والحرير ، والخمر ، والمعازف".</p><p>2ـ وروى أحمد في مسنده ، وأبو داود في سننه عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله تعالى حرم على أمتي الخمر والميسر والكوية والغبيراء وكل مسكر حرام" (والكوية : هي الطبل الصغير).</p><p>3 ـ وروى الترمذي في سننه من حديث علي رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء ، فذكر منها : إذا اتخذت القينات والمعازف" .</p><p>4 ـ وروى الحميدي في مسنده عنه صلى الله عليه وسلم قولـه : "لا يحل ثمن المغنية ، ولا بيعها ، ولا شراؤها، ولا الاستمتاع بها" .</p><p>5ـ وروى ابن مسعود رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يتغنى من الليل فقال : "لا صلاة له ، لا صلاة له ، لا صلاة له" .</p><p>6 ـ وذكر القرطبي في تفسيره : (الجامع لأحكام القرآن) من رواية مكحول عن عائشة</p><p>ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه" .</p><p>7 ـ وروى ابن المبارك عن مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من جلس إلى قينة (مغنية) يسمع منها صب؛ في أذنيه الأنك يوم القيامة" .</p><p>8 ـ روى الترمذي الحديث في (نوادر الأصول) مرفوعاً من حديث أبي موسى الأشعري رضى الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يسمع الروحانيين" ، فقيل : ومن الروحانيون يا رسول الله ؟ قال : "قراء أهل الجنة".</p><p>وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يمسخ قوم من هذه الأمة في آخر الزمان قردة وخنازير" ، قالوا يا رسول الله أليس يشهدون أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ؟ قال : "بلى ، ويصومون ، ويصلون ، ويحجون" ، قيل : فما بالهم ؟ قال : اتخذوا المعازف والدفوف والقينات ، فباتوا على شربهم ولهوهم ، فأصبحوا وقد مسخوا قردة وخنازير".</p><p>وعن أنس بن مالك أنه دخل على عائشة ـ رضي الله عنها ـ ورجل معه ، فقال لها الرجل :</p>يا أم المؤمنين ، حدثينا عن الزلزلة . فقالت : إذا استباحوا الزنا ، وشربوا الخمور ، وضربوا بالمعازف؛ غار الله في سمائه ، فقال : تزلزلي بهم ، فإن تابوا وفزعوا وإلا هدمتها عليهم . قال : قلت : يا أم المؤمنين : أعذاب لهم ؟ قالت : بل موعظة ورحمة وبركة للمؤمنين ، ونكال وعذاب وسخط على الكافرين . قال أنس " ما سمعت حديثاً بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنا أشدّ به فرحاً مني بهذا الحديث" .
وإلى جانب هذه الأحاديث يعتمد الذين يمنعون الغناء على آراء فقهية وردت عن كثير من الأئمة والفقهاء ؛ فقد روى عن الإمام أبي حنيفة أنه يكره الغناء ويجعله من الذنوب ، وقد صرّح أصحاب أبي حنيفة بتحريم سماع الملاهي ، وصرحوا بأنه معصية ، ونسب إلى سفيان ، وحماد والشعبي القول بالتحريم ، وكذلك سئل الإمام مالك عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: إنما يفعله عندنا الفسّاق ، ويرى الإمام الشافعي أنه مكروه ، ويرى أن الاستكثار منه (سفه) ، والإمام أحمد بن حنبل يجعل الغناء ينبت النفاق في القلب ، وهو لا يعجبه ، ونصّ أحمد على كسر آلات اللهو ... ويرى التحريم كذلك (ابن القيم ) والطرطوشي ، ومن المعاصرين الشيخ /
أبو بكر الجزائري ، والشيخ صالح الفوزان، ويميل إلى ذلك الشيخ أحمد بن يحيى النجمي ، وكثير من علماء السلف.
***********************
أدلة المبيحين للغناء:
من المعروف في علم الأصول ، ومن حديث الرسول الصحيح أن ما سكت الله عنه ، فهو حلال، والله لم ينس شيئاً ، و لا ينسى ، فالمسكوت عنه إنما سكت عنه تخفيفاً ... وهذه قاعدة لا يختلف فيها اثنان.
وبناءً على هذا الأصل المعروف من أصول التشريع اعتمد الذين ذهبوا إلى (إباحة) الموسيقى والغناء ، عندما تمكنوا من ردّ الأحاديث والآراء التي تذهب إلى التحريم القاطع ـ من وجهة نظرهم ـ فابن حزم وهو من الأئمة الذين يميلون للإباحة ، يتتبع الأحاديث التي اعتمد عليها الذين ذهبوا إلى التحريم القاطع .. وهو يحمل عليها من جهة سندها ورواتها ، كما يطعن فيها من ناحية فهم المانعين ، ومثله ـ في هذا المنهج ـ أبو الفضل المقدسيّ .. وبعد أن ينتهي ابن حزم الأندلسي ، وأبو الفضل المقدسيّ من تتبع الأحاديث سنداً ومتناً .. يريان أن النتيجة الطبيعية هي الرجوع إلى (الأصل) وهو (الإباحة) ما دام لم يصح فيها تحريم ، ويقول ابن حزم الأندلسيّ في ذلك : (إنه لم يصح في باب تحريم الغناء حديث ، وكل ما فيه فموضوع) .. ثم يقول : "ووالله لو أسند جميعه أو واحد منه فأكثر من طريق الثقات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تردّدنا في الأخذ به" .
ومن ثم يتدرج ابن حزم ـ بعد الانتهاء من تتبع أحاديث التحريم ـ إلى المرحلة الثانية التي يقوم عليها الرأي القائل بالإباحة ، وهي تقديم عدد من الأحاديث النبوية الصحيحة التي تفيد إباحة الرسول ـ قولاً ، أو فعلاً ، أو تقريراً ـ للسماع.
ـ فعن عائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان وتضربان ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسْجى بثوبه ، فانتهرهما أبو بكر ، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه ، وقال: "دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد" ...
وفي حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : كانت جارية من الأنصار في حجري ، فزففتها فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسمع غناءً فقال : "يا عائشة ألا تبعثين معها من يغني ؛ فإن هذا الحي من الأنصار يحبون الغناء؟ ...
وعن جابر رضى الله عنه "نكح بعض الأنصار بعض أهل عائشة ، فأهدتها إلى قباء ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أهديت عروسك؟" قالت نعم : قال : "فأرسلت معها بغناء فإن الأنصار يحبونه" ؟ قالت : لا ، قال : "فأدركيها يا زينب ـ وهي امرأة كانت تغني بالمدينة ـ" .
ويروي المقدسي بسنده إلى خالد بن ذكوان عن الرُّبَيِّع بنت مُعَوّذ قالت : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليّ صبيحة بُني عليّ فجلس على فراشي كمجلسك مني ، فجعلت جويريات يضربن بدف لهن ، ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر إلى أن قالت إحداهن : وفينا نبيٌّ يعلم ما في غد ، فقال : "دعي هذا وقولي الذي كنت تقولين قبله". وهذا حديث صحيح أخرجه البخاري" !!
ويذكر عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سافر سفراً طويلاً فنذرت جارية من قريش لئن ردَّه الله تعالى أن تضرب في بيت عائشة بدفّ ، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت الجارية فقالت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : فلانة ابنة فلان نذرت لئن ردّك الله تعالى أن تضرب في بيتي بدف ، قال : "فلتضرب" قال أبو الفضل : وهذا إسناده مفصل ، ورجاله ثقات ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا نذر في معصية الله" فلو كان ضرب الدف معصية لأمر بالتكفير عن نذرها أو منعها من فعله .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : "دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث ، فاضطجع على الفراش ، وحول وجهه ، فدخل أبو بكر فانتهرني ، وقال لي : أمزمار الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "دعهما"
ويروى عن طريق أبي داود عن نافع مولى ابن عمر قال : سمع ابن عمر مزماراً فوضع إصبعيه في أذنيه ، ونأى عن الطريق ، وقال لي : يا نافع ، هل تسمع شيئاً ؟ قلت: لا . فرفع إصبعيه من أذنيه ، وقال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وسمع مثل هذا ، وصنع مثل هذا (ولو كان الغناء حراماً لما اكتفى الرسول بوضع يديه على أذنيه تنزيهاً لنفسه ؛ بل كان نصّ على التحريم).
وعن عائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ قالت : جاء حبش يزقنون في يوم عيد في المسجد، فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم حتى وضعت رأسي على منكبه ، فجعلت أنظر إلى لعبهم ، حتى كنت أنا التي انصرفت عن النظر.
ويروى من طريق سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي ، عن عامر بن سعد البجلي أنه رأى أبا مسعود البدري ، وقرظة بن كعب ، وثابت بن يزيد ، وهم في عرس وعندهم غناء فقلت لهم: هذا وأنتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا : إنه رخص لنا الغناء في العرس ، والبكاء على الميت من غير نوح.
وكما اعتمد المانعون للغناء على بعض الآراء الفقهية ، كذلك اعتمد المبيحون له على بعض الآراء الفقهية.
فإلى جانب ـ ابن حزم الأندلسي ، وأبي الفضل المقدسيّ ـ اللذين دافعاً بقوةٍ عن السماع ، يرى هؤلاء أن الشافعي لم يقل بالتحريم ، وإنما هو ضد الإكثار منه ، كما يرون أن كثيراً من آراء الفقهاء لا تفيد التحريم بإطلاقه .
ـ ومذهب أحمد ومالك أقرب إلى الكراهية منهما للتحريم ، فهما كالشافعي أقرب إلى التوسط ؛ بل وأباح الشافعي سماح الحداء والرجز وإنشاد الشعر ، وقراءة القرآن بالترنّم حدرًا وتحزيناً ، ومن هؤلاء ابن حجر العسقلاني ، والماوردي ، وابن قدامة الحنبلي ، ونسب إلى بعض الحنابلة الإباحة.
ـ ومن الذين يبيحون بوضوح كامل ـ على غرار ابن حزم والمقدسيّ ـ أبو حامد الغزالي ، وأبو الطيب الطبري ، والشيخ أبو إسحاق ، وابن الصباغ ، ومن المحدثين كثيرون ـ بشروط ـ وسنذكرهم فيما بعد.
رأي أبي حامد الغزالي: نموذج للرأي الوسط :
والحق أنه ـ من بين الآراء المطروحة ـ كان لرأي (أبي حامد الغزالي) الذي بسطه في كتابه (إحياء علوم الدين) قيمة خاصة.
فلقد امتاز هذا الرأي بكثير من الاستقصاء للنصوص ، والتفصيل في الموضوع، والموضوعية والحياد ، والموازنة بين الملابسات والمواقف التي تميل بالرأي إلى الأصل وهو الإباحة ، أو إلى العوامل الطارئة التي تجعله حراماً ... فليس كل غناء حلالاً وليس كله حراماً . كما أن (أبا حامد الغزالي) كان متحفظاً في إطلاق التحريم ـ لأن الواجب هو ذلك ـ وكان ـ مع ذلك ـ محافظاً في ضرورة الالتزام بشروط وآداب حتى نسدّ الذرائع ..
والأكثر من ذلك كله أن (أبا حامد) حدَّد مناطق بعينها يجوز فيها السماع ، وحدّد مناطق يحرم فيها السماع ـ فأضاء لنا أبو حامد ـ بالتالي كثيراً من المناطق التي كانت تتسم بالغموض والالتباس.
يقول أبو حامد الغزالي : اعلم أن قول القائل السماع حرام؛ معناه أن الله تعالى يعاقب عليه، وهذا أمر لا يعرف بمجرد العقل ؛ بل بالسمع ومعرفة الشرعيات محصورة في النص ، أو القياس على المنصوص ، وأعني بالنص : ما أظهره صلى الله عليه وسلم بقولـه أو فعله ، وبالقياس : المعنى المفهوم من ألفاظه وأفعاله ، فإن لم يكن فيه نص ، ولم يستقم فيه قياس على منصوص ، بطل القول بتحريمه ، وبقى فعلاً لا حرج فيه ، كسائر المباحات ، ولا يدل على تحريم السماع نص ولا قياس ، ويتضح ذلك في جوابنا على أدلة المائلين إلى التحريم ، ومهما تمَّ الجواب عن أدلتهم ، كان ذلك مسلكاً كافياً في إثبات هذا الغرض .. ولكننا نقول : لقد دل النص والقياس جميعاً على إباحته.
ـ ثم يقول الغزالي : أما النظر فيه من حيث إنه محرك للقلب ، ومهيج لما هو الغالب عليه؛ فإن الحيوان يؤثر فيه السماع ، ولذلك قيل : (من لم يحركه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره ؛ فهو فاسد المزاج ليس له علاج).
ويحدد الغزالي المواضع التي يباح فيها الغناء كما يحدد أنواعه المباحة فيقول :
والترنّم بالكلمات المسجعة الموزونة معتاد في مواضع لأغراض مخصوصة ترتبط بها آثار في القلب ، وهي سبعة مواضع:
الأول : غناء الحجيج ؛ فإن فيه التهييج إلى حجج بيت الله ، وهم يدورون بالطبل والشاهين والغناء ، وينظمون أشعاراً في وصف الكعبة ، والمقام والحطيم ، وذلك مباح ، وكل ذلك جائز ، ما لم تدخل المزامير والأوتار.
الثاني : ما يعتاده الغزاة لتقوية القلوب ، والتحريض على الغزو ، وذلك مباح .
الثالث : الرجزيات التي يستعملها الشجعان وقت اللقاء ، وفيها التمدح بالشجاعة ، فإن كان القتال مباحاً فهو مباح.
الرابع : أصوات النياحة ونغماتها وتأثيرها ، والمذموم منه النياحة على ما فات والتسخط لقضاء الله .
الخامس : السماع في أوقات السرور تأكيداً للسرور ، وتهييجاً له ، وهو مباح إن كان ذلك السرور مباحاً كالغناء في أيام العيد ، وفي العرس ، وفي وقت قدوم الغائب ، وفي وقت الوليمة والعقيقة ، وما أشبه ذلك.
السادس : سماع العشاق تحريكاً للشوق ، وتهييجاً للعشق تسلية للنفس ، وهذا حلال إن كان المشتاق إليه ممن يباح وصاله : كمن يعشق زوجته أو سريته ، وإذا أنزل ما يسمعه على ما لا يحل له فهذا حرام.
السابع : سما ع من أحب الله وعشقه واشتاق إلى لقائه.
ومن زاوية أخرى يحدد أبو حامد الغزالي الحالات التي يحرم فيها الغناء فيقول :
العارض الأول : أن يكون المُسْمِع امرأة لا يحل النظر إليها ، وتخشى الفتنة من سماعها ، وكذلك الأمرد الذي تخشى فتتنه ، أما كلام النساء العادي ، وصوتهن فليس بعورة ، فما زالت النساء على عهد الصحابة يكلمن الرجال ، غير أن الغناء فيه تحريك للشهوة ، فيحرم إذا خيفت الفتنة ، وكذلك إذا خيفت الفتنة على الرجل .
العارض الثاني : في الآلة ؛ بأن تكون من شعار أهل الشرب ، والمخنّثين ، وهي المزامير والأوتار وطبل الكوية .
العارض الثالث : في نظم الصوت وهو الشعر ، فإن كان فيه كذب على الله ورسوله، وصحابته ، أو فيه شيء من الخنا والفسوق ، والهجو حرم .
العارض الرابع : في المستمع وهو أن تكون الشهوة غالبة عليه ، فالسماع حرام عليه ؛ فإنه إذا سمع حرك ذلك من شهوته.
العارض الخامس : أن يكون الشخص من عوام الخلق ، لم يغلب عليه حب الله ، فيكون السماع له محبوباً ، ولا غلبت عليه شهوة فيكون في حقه محظوراً ؛ ولكنه أبيح في حقه كسائر المباحات ؛ إلا أنه إذا اتخذه ديدنه، وقصر عليه أكثر أوقاته ؛ فهذا هو السفيه الذي ترد شهادته ؛ فإن المواظبة على اللهو جناية ، وبعض المباحات بالمداومة تصير صغيرة، فما كل حسن يحسن كثيره ، ولا كل مباح يباح كثيره.
وهذا هو خلاصة رأي أبي حامد الغزالي أورده في كتابه المشهور (إحياء علوم الدين)، وأورد فيه نصوصاً كثيرة من السنة ، ومن آراء الفقهاء ... لكننا تركناها لورودها معنا في مواضع أخرى استشهد بها المانعون أو المبيحون أو الناهجون نهجاً موضوعياًَ وسطاً .
لكن أبا حامد الغزالي ـ كما ألمعنا سلفاً ـ بسط القضية من جميع جوانبها ، فكان رأيه نموذجاً للاعتدال والحياد ، ولهذا اخترناه ممثلاً للمدرسة الموضوعية المعتدلة ـ الواقفة عند حدود النصّ ، وفقهه الفقه الموضوعي ، لا أن تسقط على النصوص الكريمة من خلفياتها المتشدّدة ، ولا من خلفياتها المتفلتة المفرطة .. فالحق أحق أن يتبع دون إفراط أو تفريط .
تحرير محل النزاع بين المبيحين والمانعين :
إن الباحث في أمر الموسيقى والغناء يجد تناقضاً بين الطرفين اللذين يتصوران أمر الغناء ويحكمان عليه ... وبما أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره .. فلابد من تحديد موضع النزاع ، والاتفاق على صورة الغناء .. تدرجاً في عملية الوصول إلى الحكم عليه.
فالذين يذهبون إلى إباحة الغناء يتكلمون ـ غالباً ـ عن صورة ليست في مخيلة الذين يحرمون الغناء .. فصورته التي يحكمون عليها .. هي صورة امرأة تغني لزوجها أو لنفسها أو لأولادها... أو صورة رجل يغني لنفسه أو لأولاده ولأسرته أو لرفقائه في الرحلة ، أو لمجتمع من الرجال في حالات فراغ ، وفي ظل شروط كريمة ، وقد تغنى المرأة للنساء ، أو تغني ـ دون تحنث ـ في الأفراح للنساء والأطفال , وللمحارم .. وهلمّ جرا من هذه الصور التي تفتح على الحياة نوافذ من الراحة ، وتغير من كآبة الحياة ، وترقى الوجدان ، وتخفف من حدة الصراع العقلي.
أما الذين ذهبوا إلى التحريم فصورته عندهم مختلفة تماماً .. فالغناء عندهم امرأة (أجنبية) تتمايل ، وكئوس تتداول ، واختلاط ومباذل ، ورقص وتصفيق ، وسقوط في الكلمات عميق ، وهو عندهم ـ أيضاً ـ سهر حتى الصباح ، ونوم طول النهار على مزمار الشيطان .. بينما هو عند الأول ، سويعة من الزمن لا تمنع عن الفرائض أو السنن .. ولا تطغى على بقية الواجبات ,
ولا تفسد صياغة الإسلام للحياة ..
فهكذا يتبين لنا أن (الموضوع) الذي يتصوره الطرفان للغناء مختلف ، وللأسف فإن كلاً منهما يحكم ـ (بالجملة) ـ على الغناء من وجهة النظر التي يتخيلها له ... مع أن الأمر يحتاج إلى تفصيل...
وهذه نقطة أساسية من نقاط تحرير محلِّ النزاع بين الطرفين .
والنقطة الثانية هي أن (الزمان) موضع خلاف بين الطرفين أيضاً ، ويجب الاتفاق عليه .. فحتى لو كان الغناء حلالاً كله (بالشروط الإسلامية بالطبع) فإنه يمكن أن ينقلب إلى التحريم إذا هو استغرق وقت المسلم أو جل وقته، أو إذا طغى على واجباته الأساسية ما كان منها دنيوياً أو أخروياً .
فإذا كانت بعض الإذاعات الإسلامية والعربية تعطي الغناء ـ من وقت إرسالها ـ نصف الوقت المخصص للإرسال ، فهذا إسراف لا يرضي به الله ، ولا يقره أحد. وهذا يدفعها إلى إذاعة الخبيث والطيب ... فيرفض الناس الغناء بالجملة ، ولا سيما وأنَّ تأثير الخبيث أمكن من تأثير الطيب ، فالسقوط أسهل من الصعود.
وبالتالي ، فلابد من الاتفاق على أنَّ إباحة الغناء هي إباحة مقيدة بزمان محدود لا يطغى على البرنامج الإسلامي للحياة.
وأما النقطة الثالثة التي لا بد من الاتفاق عليها ، فهي أن هناك شروطاً يقول بها المبيحون ، وهي شروط تنفي عن الغناء كثيراً من صوره الماجنة التي نراها اليوم ، والتي لا يتحقق فيها إلا المباذل والمناكر ؛ بل هي ليست من الفن الصحيح في شيء . فلو توافرت الشروط والضمانات ، فلا امرأة أجنبية في أوساط الرجال ، وليس هناك تخنّث ، ولا يوجد في الكلمات دعوة إلى الفسق أو الكفر ، وليس ثمة تضييع للفرائض ، ولا خمور أو ما ينتسب إليها .. إلى غير ذلك من الشروط .. لو توافرت هذه الشروط فإن الرأيين سيقتربان ، وسيمكن التعرف على مواطن الإباحة والتحريم في الموسيقى والغناء .. لأن الأمر لا يمكن أن يؤخذ بالجملة.
تحقيق حكم الغناء والموسيقى في تراثنا الفقهي القديم :
ها قد سردنا الآراء في الغناء بين المنع والإباحة ـ في فقهنا القديم ـ ولقد وجب أن نمحِّص الرأي فيما ذهب إليه هؤلاء وهولاء ـ ( على ضوء تحرير محل النزاع) ـ !!
ولنستعرض الآن رأي أحد العلماء المعاصرين في هذا الموضوع وهو الدكتور/ "عبد الفتاح محمد الحلو" الذي يقول :
ـ لقد أصاب أكثر الذين ناقشوا فكرة السماع ، سواء منهم من حكم بكراهيته ، أم من حكم بحرمته ، أم من حكم بحلّه فلكل رأيه؛ ولكن واجب البحث يحتم علينا أن نناقش بعض المسائل التي أثاروها ، ويمكن أن يقال : إن رأي الشافعي رضى الله عنه لا يتيح فرصة للمناقشة ، فهو محايد إلى حد كبير ، وأما ما قرره الحافظ ابن قيم الجوزية وغيره من الذين ذهبوا إلى التحريم ، فقد رأينا أن الأحاديث التي استدلوا بها ضعَّفها الحفّاظ وأهل البصر بالحديث مرة من جهة السند ، وأخرى من جهة المتن ، ولم يسلم إلا حديث البخاري عن هشام بن عمار ، وأيضاً فهذا الحديث لم يسلم من الطعن ، فلم يقبله بعض الفقهاء ؛ لأن البخاري لم يتصل ما بينه وبين صدقة بن خالد.
وأما ابن حزم فلم يُفـْصِّلْ في السماع الحلال تفصيلا شافياً يمكن أن يستند عليه ، وكان كل همِّه إثبات (حِلّيته) ، وكذلك فعل أبو الفضل المقدسي . وأما الغزالي رحمه الله فقد فصل تفصيلاً مقبولاً إلى حد كبير ، وإن كان قد رخص لنفسه وأوسع من صدر كتابه (الإحياء) لقصص التواجد عند الصوفية وقت السماع ، وبعضها ؛ بل وكثير منها خارج عن حدِّ الاعتدال ، ولم يناقش
أبو حامد إلا الأحاديث التي تحرم الغناء أو الدف والطبل والشاهين ، وقد اقتنع بالأحاديث التي تحرم المزامير والأوتار والملاهي ، وعلـَّل تحريمها.
ويمكن أن نقول : إن كل الأحاديث الواردة في النهي عن الغناء وما يصحبه من آلات أو أكثرها ـ وعلى الرغم من تضعيف المحدثين لها ـ يمكن أن يقال بأنها ترسم صورة مكتملة لقوم تفشت بينهم الإباحية ، وهمتهم فوضى الشهوات ، وصرخت في دمائهم شياطين الفساد؛ فاجتمعوا على غناء داعر ، وشراب مسكر ، ولهو مستنكر مذموم ، وقد خرجوا بذلك كله عن محيط الحياة وما فيها من إلزام وجد رصين ، فلا عجب أن يصيبهم المسخ ، سواء أكان ذلك على حقيقته أم كان هذا على التشبيه والمقارنة ، ولا يجب أن ندخل في قضية جديدة أثارت الفقهاء وأثاروها.
ومما لا شك فيه أن أحداً ممن يعرف فكرة الإسلام في الحفاظ على المجتمع والذود عن حياضه يدرك تماماً أنه لا يقرّ هذه الصورة المرذولة.
ولو نظرنا الآن إلى الفنون عامة ـ وإلى السماع بنوع خاص ـ وقارنا بين ماضيها وحاضرها لأمكن أن يقال : إن أكثرها كان قديماً ، وقبل أن تترقى الإنسانية؛ مجالاً رحباً لإرضاء الشهوات ، وإشباع الغريزة الجنسية ، أو على الأقل التنفيس عنها، ويوضح هذا ما نقله الغزالي عن
الشافعي رضى الله عنه : من أنه ـ أي السماع ـ ليس من عادة ذوي المروءة والدين؛ بينما نحس الآن أن السماع لو وُجّه وجهةّ فطريةً طيبةً لكان من العوامل الهامة في ترقية مدارك الناس ، ثم لحملهم على السمو بغرائزهم ، ولدفعهم في الأعم الأغلب إلى مثل عليا ، لا يفيد في الدعوة إليها حالياً خطب الخطباء، ولا روائع الكتاب.
وعلى ذلك فيحسن بنا أن نحدد على ضوء الدراسة المنهجية ، وعلى ضوء ما أدركنا في فهم النصوص وتصحيحها، الحدود التي يلتزمها السماع؛ حتى يمكن أن يفيد معنويات الأمة ، وحتى لا يجافي روح التشريع وقداسته.
فالسماع يجدر بنا أن نحكم (بحلّه) ، فقد تضافرت النصوص التي تؤيد ذلك ، ولكن هذا الحكم يجب ألاَّ يكون على إطلاقه ، ذلك أن هناك من الملابسات والأمور التي قد تحرمه وتجعله وزراً ، ولا نكاد نستشعر فرقاً بين آلة وترية وغير وترية حتى نحكم بحل السماع بالدفّ ، ونحكم مرة أخرى بحرمة السماع بالعود ؛ لأن تأثير الآلات واحد . والتعليل الذي قدمه الغزالي يمكن أن يقبل بالنسبة لوضع مدمن الخمر أو سابق العهد بها ، أما بالنسبة لجمهور المسلمين ، فلا يمكن أن يقبل هذا التعليل.
وللسماع الآن أكثر من صورة ، وأكثر من شكل ، وأكثر من موضوع ، ويمكن أن نحكم بحل السماع إذا وضعنا نصب أعيننا الأشياء الآتية :
أولاً : مكان السماع : فإذا كان السماع في حفلات صاخبة مثل هذه الحفلات التي تقام له فتراق فيه الخمر ، وتكشف فيها النساء عن مفاتنهن ، أو تكشف المرأة المغنية فيها عن مفاتنها وما لا يحل لها كشفه من جسمها ، فإن ذلك حرام ، وما كان للمسلمين ، ولا لأحد من الفقهاء أن يحكم بحل السماع على هذا الشكل.
ثانياً : اللحن والصوت اللذان يؤدى بهما الغناء : فإن كان فيهما خروج عن الآداب ، أو ميل إلى إثارة الغرائز الدنيّا ، أو كان في الكلام الذي يتألف منه اللحن ما يؤدي إلى ذلك فما من شك في أن ذلك غير جائز.
ثالثاً : الوقت الذي يضيع في هذا اللهو : يجب أن لا يجني على المقومات الأصلية للتكوين الفردي ، والتكوين الجماعي ، فإذا ما أصبح السماع دَيْدَنَ الناس ، وتلهوا به عن مقومات حياتهم وعن فروض دينهم ، وعن تكوين أمتهم وبناء صرحها ، فإن الإسلام لا يبيحه ولا يرضى به ، وإنما يعتبر هذا العمل جرماً يسقط المكانة الأدبية للمرء ، ويمنعه في المشاركة في المظهر الأدبي للأمة فيسقط منه حق الشهادة أمام القضاء.
رابعاً : يجب أن يراعى في السماع ألا يجني على النشء الجديد: وأن نلاحظ الطبقات التي تتكون منها الأمة ، فمما لا شك فيه أن بعض أنواع السماع تؤثر في المراهقين المولعين بالشهوات تأثيراً أضخم مما تؤثره في الأشخاص العاديين .
هذا .. وقد أصبح الآن جهاز السماع ومقوماته:"الإذاعة" و "التلفاز" بيد الدولة ، كما أن الدولة يمكن أن تراقب محلات الأشرطة وأسواقها ، وهذا بدوره يلقي عليها عبئَا ثقيلاً يجب أن تنهض به، ومن واجب الدولة أن تمحص الأمور ، فتراعي الفكرة الإسلامية الأخلاقية في صياغة الأغنية وتلحينها وأدائها ، وتوجه الأغنية والبرامج الغنائية وجهة إصلاحية نافعة . كذلك يمكن للأجهزة الحكومية الأخرى ـ في كثير من بلدان العالم الإسلامي ـ أن تمنع هذه الحفلات الصاخبة ؛ حفلات العرس وأشباهها ، التي يستغل فيها ذلك النوع من الفن استغلالاً سيئًا يتلف الأخلاق ، ويذهب بالمثل العليا . هذا هو صوت التشريع ، وهذه هي أحكامه ، وهي بلا شك أحكام واعية رشيدة تبين حرص الإسلام على الأمة وجهده في بنائها ... وهذا هو تحقيقي لأمر الغناء .
وبهذا ينتهي رأي للدكتور/ عبد الفتاح محمد الحلو في هذا الشأن.
الغناء والموسيقى في الفقه المعاصر:
واستكمالاً لوجوه الرأي ، ووصولاً إلى الاجتهاد الجماعي ، وتوفيراً لعنصر المعاصرة ـ كان لابد لنا من أن نستعرض (قضية الغناء والموسيقى) نعرف آراء أولى الفقه والرأي من مختلف المدارس الفقهية ... ولنبدأ الآن بمعرفة رأي أبي عبد الرحمن عقيل الظاهري في قضية الغناء؛ لنعرف هل يراه مباحاً أم يراه غير ذلك .. وهو يرى :
(أن الإباحة والتحريم إنما هما للشرع ، وتلمس الإباحة من الشرع تعطينا يقينا بأن كثيراً من الغناء العربي والغربي في هذا العصر لا يحل شرعاً ، لا لأنه غناء فقط ؛ وإنما لأجل اعتبارات أخرى صاحبته !
وهذه الاعتبارات راعى بعضها القاضي (أبو بكر بن العربي) فاعتبر غناء زوجة الرجل أو ملك يمينه بشتَّى المثيرات من القرب والطاعات ؛ لأنها تثيره في شيء يثاب عليه. وكلمة يثاب عليه أكثر من قولنا: إنه مباح.
والإمام (ابن حزم) كتب رسالته في الغناء وهي ضميمة موجزة جداً وتناوله في كتاب البيوع، ودعواه صحيحة في جملتها ، ولكن استدلاله واعتراضه على المحرمين لا يتسق مع كثير من أصول المسلمين الصحيحة ، مثال ذلك قدحه في حديث هشام بن عروة ، وهو في صحيح البخاري، فضلاً عن زعمه انقطاع الحديث وهو غير صحيح .
والخلل في كلام ابن حزم أنه (أولاً) لم يحقق القاعدة في معلقات البخاري ، رغم أنه شرح أبواب البخاري ، وأجاب عن بعض الاستشكالات على الصحيح .
والخلل (الثاني) أنه لم يتتبع الأصول التي وصلت حديث هشام .. ولهذا كان (الحافظ
ابن حجر) أكثر توفيقاً في هذا الأمر ؛ لأنه اطلع على أصول لم يطلع عليها ابن حزم كصحيح الإسماعيلي .
وعلى أية حال فدعوى ابن حزم في إباحة الغناء بالشروط التي ذكرها صحيحة وذلك في كتابيه : (رسالة الغناء ، والمحلى).
إلا أنه في كتيِّبه الموسوم باسم (الجامع) .. عاد فقرر أن الغناء حلال وترك سماعه أفضل ... فهذا تناقض .. لأن المباح في عرف أهل اللغة والفقهاء والقانونيين والعرف العام للناس أنه ما كان مستوى الطرفين .. فلا يوصف بأفضل أو أسوأ.
فإن ترك الإنسان "المباح" وشغل وقته بالجديات ففي هذه الحالة نقول : فعله أفضل ، وهو الأخذ بالجدّيات ... أما المباح ذاته الذي تركه فلا يوصف بأفضل ولا أسوأ ... لأنه إن وصف بالأفضل كان مستحباً ، وإن وصف بالأسوأ كان مكروهاً (وحقيقة المباح غير هذين) ...
وهذا تقرير لمذهب ابن حزم نفسه ، وما له أو عليه فيه ...
ـ أما ما أراه شخصياً (والكلام لأبي عبد الرحمن الظاهري) فهو أن الغناء حلال في ذاته ، وقد يكون حراماً لغيره كأن صحبه قيان وخمر ، وكأن يكون الغناء بصوت شاب متكسر مثير للغدد الجنسية .. أو أن تكون الكلمات تشتمل على ما لا ينبغي شرعاً ، من التلفظ بفاحشة
أو اعتراض على قدر الله (ولا أرضى بالمكتوب) أو تهكم بالغيب كقول : (الهادي آدم) الذي غنته أم كلثوم (قد يكون الغيب حلواً ـ إنما الحاضر أحلى) ... وإنما قلت (الغناء حلال لذاته ، حرام لغيره) مراعاة لناحيتين :
أولاهما : تحاشي تفسيق أئمة فضلاء استباحوا وأباحوا غناءً معيناً باجتهادهم الشرعي .. وهم أئمة في الفقه والحديث كبعض أصحاب الشافعي .. وبعض فقهاء المدينة ،
وابن طاهر القيسراني الحنبلي وابن حزم ... وغيرهم.
وثانيتهما : أنني تأملت النصوص الشرعية الواردة في الغناء .. فوجدتها على أربعة أقسام :
الأول : نصوص قطعية الدلالة والثبوت على التحليل والتحريم .
الثاني : نصوص غير قطعية الدلالة وغير قطعية الثبوت على التحريم أو التحليل.
وثالثها : نصوص قطعية الدلالة غير قطعية الثبوت على التحليل أو التحريم ...
ورابعها : نصوص غير قطعية الدلالة ، ولكنها قطعية الثبوت على التحريم أو التحليل.
فالأقسام الثلاثة الأخيرة لا تقوم بها الحجة ؛ لأن النص لا تقوم حجته حتى يكون قطعياً في دلالته وثبوته ، ولست أريد بالقطع البرهان المنقطي أو الرياضي .. أعني اليقيني ، وإنما أريد بالقطع ، ما تتعين به الحجة في مصطلح الشرع بأن يكون راجحاً .. لأن ترك الرّجحان سفه وعناد، وترجيح المرجوح مكابرة .. والترجيح بلا مرجح تحكم ، فبقيت الحجة في القسم الأول ، وهو قطعي الدلالة والثبوت. على التحليل والتحريم ، فتأملنا النصوص المبيحة للغناء ، فوجدناها غير معلّلة ولا محددة بآفة تصحبها .
أما النصوص المحرمة بالإضافة إلى تعليلات المجتهدين من (المحرِّمين) فقد أضافت إلى الغناء شيئاً حُرِّم الغناء لأجله ، كالنماذج السابقة (القيان والخمور).
لهذا لزم القول بأن الغناء (حلال لذاته حرام لغيره) وهذا خلاصة ما انتهى إليه اجتهادي !!
ـ ويرى الدكتور(يوسف القرضاوي عميد كلية الشريعة بقطر) أن الغناء والموسيقى من اللهو الذي تستريح إليه النفوس ، وتطرب له القلوب ، وقد أباحه الإسلام ما لم يشتمل على فحش
أو تحريض على إثم ولا بأس بأن تصحبه الموسيقى غير المثيرة .
وهو يستحب في المناسبات السارة ، إشاعةً للسرور ، وترويحاً للنفوس ، وذلك كأيام العيد والعرس وقدوم الغائب ، وفي وقت الوليمة ، والعقيقة وعند ولادة المولود.
فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
يا عائشة : "ما كان معهم من لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو" .
وقال ابن عباس : زوجت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "أهديتم الفتاة" ؟ قالوا : نعم ، قال: "أرسلتم معها من يغني؟" قالت : لا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الأنصار قوم فيهم غزل ، فلو بعثتم معها من يقول : أتيناكم ، أتيناكم ، فحيانا وحياكم" ؟
ويستشهد الدكتور/ القرضاوي بما ذكره الإمام الغزالي في كتاب (الإحياء) من أحاديث غناء الجاريتين ولعب الحبشة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وتشجيع النبي لهم بقوله : "دونكم يا بني أرفدة" .
وقول النبي لعائشة : "تشتهين أن تنظري" ووقوفه معها حتى تملَّ هي ، ولعبها بالبنات مع صواحبها ، ثم قال : فهذه الأحاديث كلها في "الصحيحين" وهي نص صريح في أن الغناء واللعب ليسا بحرام ، وفيه دلالات على أنواع من الرخص منها :
الأول : اللعب ، ولا يخفى عادة الحبشة في الرقص واللعب.
الثاني : فعل ذلك في المسجد.
الثالث : قولـه صلى الله عليه وسلم : "دونكم يا بني أرفدة" وهذا أمر باللعب ، والتماس له فيكف يقدر كونه حراماً ؟
والرابع : منعه لأبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ عن الإنكار والتعليل والتغيير وتعليله بأنه يوم عيد .
والخامس : وقوفه طويلاً في مشاهدة ذلك وسماعه.
والسادس : قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة ابتداء : "أتشتهين أن تنظري" ؟
والسابع : الرخصة في الغناء ، والضرب ، والدف من الجاريتين ..
وقد روى عن كثير من الصحابة والتابعين ـ رضي الله عنهم ـ أنهم سمعوا الغناء ولم يروا بسماعه بأساً, أما ما ورد في تحريمه من أحاديث نبوية فكلها مثخنة بالجراج، لم يسلم منها حديث من طعن عند فقهاء الحديث وعلمائه ، وقال القاضي أبو بكر بن العربي : لم يصح في تحريم الغناء شيء ، وقال ابن حزم : كل ما روى فيها باطل موضوع.
وقد اقترن الغناء والموسيقى كثيراً بالترف ومجالس الخمر والسهر مما جعل كثيراً من العلماء يحرمونه أو يكرهونه ، وقال بعضهم : إن الغناء من "لهو الحديث" ولهذا كان لابد لإباحة الغناء من قيود تراعى عند السماع وهي :
1ـ أن يكون موضوع الغناء مما لا يخالف أدب الإسلام وتعاليمه .
2ـ وطريقة أداء المغني له غير الكريمة فتنقله من دائرة الحل إلى دائرة الحرمة ، وذلك بالتكسر والتمييع وتعمد الإثارة للغرائز والإغراء بالفتن والشهوات .
3 ـ كما أن الدين يحارب اللغو والإسراف في أي شيء حتى في العبادة فما بالك في الإسراف في اللهو ، وشغل الوقت به ، والوقت هو الحياة ؟!
4 ـ وتبقى هناك أشياء يكون كل مستمع فيها مفتي نفسه ، فإذا كان الغناء أو لوناً خاصاً منه يغريه بالفتنة ، ويطغى فيه الجانب الحيواني على الجانب الروحاني ، فعليه أن يتجنبه حينئذ ، ويسدّ الباب الذي تهبّ منه رياح الفتنة على قلبه وخلقه فيستريح ويريح.
5 ـ ومن المتفق عليه أن الغناء يحرم إذا اقترن بمحرمات أخرى كأن يكون في مجلس شرب، أو تخالطه خلاعة أو فجور ، فهذا هو الذي أنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهله بالعذاب الشديد حين قال : "ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ، ويعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير" .
ومن ثم ؛ فإن الدكتور/ يوسف القرضاوي يرى أنه إذا تحققت هذه الشروط؛ فإن الغناء يعود إلى الأصل وهو الإباحة !!
أما الشيخ(محمد الغزالي) فقد عبر عن رأيه في هذا الموضوع ، وهو يقول : على أي أساس يريد بعضهم تعميم تحريم الموسيقى والغناء؟
ـ إن التحريم يحتاج إلى نص والأصل (الإباحة) والنبي سمع المغنيين والمغنيات ووجدت بعض الأدوات الموسيقية في بيته ، فكيف أحرّم شيئاً لم ير الرسول حرجاً في وجوده
أو الاستماع إليه؟ ومعروف أنه اقترح في أحد أعراس الأنصار أن يرسل في هذه الأحفال من يغني ، فكيف تقول إن الغناء هنا حرام؟ وأنا أعرف أن هناك ناساً يتأولون بعض الآيات لتحريم الغناء كقولـه تعالى:{ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (لقمان - 6 ).
---------------------------------
المراجع :
<p>اعتمدنا في هذا البحث على آراء الأساتذة :</p><p>1ـ د/ عبد الفتاح محمد الحلو.</p><p>2ـ الشيخ / أبو عبد الرحمن الظاهري.</p><p>3 ـ يوسف القرضاوي.</p><p>4 ـ الشيخ/ محمد الغزالي.</p>وهي آراء حية نشرت في جريدة الشرق الأوسط السعودية (انظر الملف الفقهي لجريدة الشرق الأوسط).