وقد استند كل رأي الى احاديث وآثار وتأويل لما ورد في القرآن الكريم عن 'اللهو' إلا ان القائلين بالاستحسان والإباحة ينقضون آراء القائلين بالتحريم والكراهة، فيذهبون الى انه ليس في كتاب الله أو سنة رسوله او معقولهما من القياس والاستبدال ما يقتضي تحريم مجرد السماع للأصوات الطيبة الموزونة مع آلة من الآلات، لان الصوت الطيب من حيث هو طيب لا يحرم بل هو حلال ولم يقل احد انه حرام لمجرد انه صوت، وقد تعقبوا جميع أدلة القائلين بالتحريم ليصلوا الى انه لم يصح منها شيء.
الفن والجمال
الدكتور محمد عمارة عضو مجمع البحوث الاسلامية احد الرافضين للتحريم يقول الفن مهارة، واذا كانت المهارة لها مقاصد اخلاقية فهي جميلة، وقد اتفق كاتب روسي وابن سينا في كتابين عن النقد والفن لكل منهما على ان الفن لا يكون الا اذا كان لمقاصد اخلاقية وترفيهية من اجل تهذيب الوجدان وجعل الانسان يستشعر مافي الكون من جمال. لذلك الفن الجميل نعمة من الله، اما اذا وصل الى فسق فهذا لا يرضي عاقلا او دينا.
مأساتنا اننا لا نبدع فنا يروي احساسنا بالجمل وينشط ابداعنا، لذا ترفض بعض الجماعات الفن عموما كرد فعل للابتذال، وبعضهم كرد فعل للفكر القديم، فهناك فقهاء رويت عنهم فتاوى مختلفة في الغناء، مرة يقولون بالتحريم ومرة بالكراهة واخرى تراه حلالا، اذا الحكم هنا على حالات للفن، وفي عهد عمر ابن الخطاب ذهب اليه رجل يشكو من امامهم بأنه يغني بعد ان يفرغ من الصلاة، فطلب عمر ان يذهب اليه الإمام، وقال له اتتمجل في عبادتك ؟ قال: لا يأمير المؤمنين، ولكنها عظة.. قال عمر: رددها فان كانت كذلك ارددها معك، فلما رددها قالها معه عمر، وقال بمثل هذا فليتغنى من يغني .. وقال شيخنا الغزالي: الغناء كلام، حسنه حسن وقبيحه قبيح.
لهو مباح
اما الشيخ القرضاوي فيرى أن الغناء من اللهو الذي تستريح اليه النفوس، وتطرب له القلوب، وتنعم به الآذان، وقد اباحه الإسلام ما لم يشتمل على فحش او خنا او تحريض على إثم، ولا بأس ان تصاحبه الموسيقى غير المثيرة.
ويضيف القرضاوي على موقعه بالانترنت بأن الغناء يستحب في المناسبات السارة، اشاعة للسرورة، وترويحا للنفوس وذلك كأيام العيد والعرس وقدوم الغائب، وفي وقت الوليمة، والعقيقة، وعند ولادة المولود، ويؤكد على ان ما ورد فيه من احاديث نبوية كلها مثخنة بالجراح لم يسلم منها حديث من طعن عند فقهاء الحديث وعلمائه، قال القاضي ابو بكر بن العربي: لم يصح في تحريم الغناء شيء، وقال ابن حزم: كل ما روي فيها باطل موضوع.
ويوضح بان كثيرا من الغناء والموسيقى قد اقترن بالترف ومجالس الخمر والسهر الحرام مما جعل كثيرا من العملاء يحرمونه او يكرهونه، وقال بعضهم: ان الغناء من 'لهو الحديث' المذكور في قوله تعالى : 'ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا اولئك لهم عذاب مهين'.
ويضع القرضاوي قيودا لابد من مراعاتها في امر الغناء يجملها على النحو التالي:
اولا: لابد ان يكون موضوع الغناء مما لا يخالف ادب الاسلام وتعاليمه، فاذا كانت هناك اغنية تمجد الخمر او تدعو الى شربها مثلا فان اداءها حرام، والاستماع اليها حرام وهكذا ما شابه ذلك.
ثانيا: ربما كان الموضوع غير مناف لتوجيه الإسلام، ولكن طريقة أداء المغني له تنقله من دائرة الحل إلى دائرة الحرمة، وذلك بالتكسر والتمييع وتعمد الإثارة للغرائز والإغراء بالفتن والشهوات.
ثالثا: بما أن الدين يحارب الغلو والإسراف في كل شيء حتى في العبادة، فما بالك بالإسراف باللهو، وشغل الوقت به، والوقت هو الحياة؟ لا شك ان الإسراف في المباحات يأكل وقت الواجبات وقد قيل بحق: 'ما رأيت إسرافا إلا وبجانبه حق مضيع'.
تبقى هناك أشياء يكون كل مستمع فيها مفتي نفسه، فإذا كان الغناء أو لون خاص منه يستثير غريزته، ويغريه بالفتنة، ويطغى فيه الجانب الحيواني على الجانب الروحاني، فعليه أن يتجنبه حينئذ، ويسد الباب الذي تهب منه رياح الفتنة على قلبه ودينه وخلقه، فيستريح ويريح.
ومن المتفق عليه ان الغناء يحرم إذا اقترن بمحرمات أخرى كأن يكون في مجلس شرب أو تخالطه خلاعة أو فجور، فهذا هو الذي أنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهله وسامعيه بالعذاب الشديد حين قال: 'ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير'.
مباحات
أما الشيخ جمال عبدالسميع الواعظ في الأزهر فيقول: إن الوقوف عند حد الوسط هو الأولى بالاتباع ومن ثم نميل إلى سماع الموسيقى من المباحات ما لم تكن محركة للغرائز باعثة على الهوى والغوية والمجون أو أوقعت في المحرمات أو ألهت عن الواجبات ففي هذه الحالات تكون حراما كالجلوس على الطريق دون حفظ حقوقه.
ويشير إلى أن موقف السلف الصالح مبني على أن الحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله. موضحا ان ابن حزم في المسألة رقم 1565 من كتابه 'المحلي' يقول 'فمن نوى باستماع الغناء عونا على معصية الله فهو فاسق وكذلك كل شيء غير الغناء ومن نوى به ترويح نفسه ليقوى بذلك على طاعة الله عز وجل فهو مطيع حسن وفعله هذا من الحق ومن لم ينو طاعة أو معصية فهو لغو معفو عنه كخروج الإنسان إلى بستان متنزها وقعوده على باب داره متفرجا أو غير ذلك'.
ويأتي الشاطبي وهو من أبرز أئمة المذهب المالكي ليعرض هذه المعاني في كتابه 'الاعتصام' فيقول: 'إن الشعر المغنى به قد اشتمل على أمرين':
- أحدهما: ما فيه من الحكمة والموعظة وهذا مختص بالقلوب فبها تنفعل لذلك ينسب السماع إلى الأرواح.
- والثاني: ما فيه من النغمات المرتبة على النسب التلحينية فكل تأثر في القلب من السماع تحصل عنه آثار السكون.
وعن ابن جريج انه كان يرخص في السماع فقيل له: أيؤتى يوم القيامة في جملة حسناتك أو سيئاتك فقال: لا في الحسنات ولا في السيئات لأنه شبيه باللغو: 'لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم' (البقرة: 225) ويقول الإمام الغزالي في 'الإحياء': إن الآلة إذا كانت من شعار أهل الشرب أو المخنثين كالمزامير والأوتار وطبل الكومة فهذه ثلاثة أنواع ممنوعة ومعنى ذلك انها لو لم تكن شعار أهل الشرب والمخنثين فهي مباحة. وما عدا ذلك يبقى على أصله الإباحة كالدف وان كان فيه الجلاجل والطبل والشاهين والقضيب وسائر الآلات.