الغناء في الإسلام
كثيرون يهمهم الجانب الشرعي في أي مسألة يقومون فيها، وأنا منهم، رغم أن اعتقادي أن هذا المسلك فيه نوع من التردد؛ لأن الأصل في الإسلام أنه ينظر إلى الدنيا بجمالها ويدعم الحياة والعمران فيها، ويرى الأصل في الأشياء الحلة.
وموضوع الغناء موضوع قديم كتب فيه آلآف المؤلفين، ولقد قرأت ما يزيد عن ألف مصدر في هذا الموضوع، من بين فتوى وكتاب ومقالة ورسالة. وكان من أجملها ما كتبه د. حمد الهباد عميد معهد الدراسات الموسيقية العليا في الكويت، حيث ناقش الأراء الشرعية في الموسيقى، وهي باعتقادي أول رسالة جادة ومحترفة تناقش الرأي الشرعي من شخص موسيقي؛ لأن العادة مشايخ يحرمون الموسيقى، لكن هنا موسيقي يناقش الأراء الشرعية، وهو ما ينظر إليه العاقل؛ لأن أغلب الناس يقرأ لمن يقول برأيه فقط. ومن جمال هذه الرسالة أنها ناقشت كل الأراء والأدلة الشرعية اوفندتها تفنيداً شرعياَ.
وخلاصة القول أن رأي الشرع في الغناء، بالنسبة لي واضح، لكن آراء الناس فيه متضاربة؛ فمنهم من يرى بحرمته حرمة شديدة حتى وصل في الإمام اين القيم - رحمه الله - أن جعله أشد حرمة من الخمر. واستدلوا بذلك بأراء وأدلة واهية غالبها لا يصح. ومنهم من يرى بكراهيته واحتجوا بأنه رفيق الفاسدين غالباً وليس الصالحين، وحجتهم مثل من قبلهم، ومنهم من أباح مع التحفظ وشرط فيه القول والكلام والفعل، ولهم في أدلتهم قوة ورأيهم عقل، ومنهم من حسنه، وأستدلوا بأراء تعدت المائة شرعية وعقلية، ومنهم من رأى فساد من لا يسمعه، كونه يخالف الفطرة، وشددوا على من حرمه، كقول الإمام الأعظم شلتوت شيخ الأزهر - رحمه الله - من لا يستمع إلى الغناء "جلف حمار" يقصد بطبعه وسلوكه، وقول ابن حزم - رحمه الله - في سوء طباع من لا يسمعه.
ما بين الرأي الذي يقول أنه فاسد مفسد وبين القول الذي يقول أن من لا يسمعه جلف حمار، وكل هذه الأقوال من أشخاص معتبرين شرعاً وفي تاريخنا، سعة.
أنا شخصياً مع رأي الجمهور والأغلبية بأنه مباح. بل أنا أميل إلى من قالوا بضرره على المجتمع لو أزيل؛ لان المجتمع، وهذا من باب متخصص، لو لم يجد المنفس لذلك هنا فسوف يلجأ إلى العنف، كما حصل في صدر الخلافة العباسية، والتقتيل الذي حدث، وكما حصل في حكم طالبان وما جره من ضرر على المسلمين وغزو من الغرب وتشريد للملايين، وكما حصل في حكم الفاطميين، حتى جاء من يسمع الغناء ويطربه وهو صلاح الدين الأيوبي فأزال الغمة. أنا مع رأي أنه مضرة كبيرة، والناس عندما تنشأ على الجلافة تجلف، لكني أقول أن المتدينين أوجدوا بدائل منها ما يسمى بالأناشيد، ومنها ما يسمى بالسمر الثقافي والأمسيات، وهي برأيي بدائل جيدة، وقد تغني إذا كانت مصحوبة بنية طيبة. لكن ما لا يسمع لا غناء ولا أناشيد ولا سمر فالقول فيه كثير.
لما قلت الجماهير والأغلبية قصدت، فنحن الدارج عندنا الأعتقاد بأن الجمهور يحرم الغناء، وهذا غير صحيح، فعلماء مصر كلهم إلا قليلاً يبيحونه، وعلماء الأندلس جميعاً، وعلماء المغرب، وعلماء سوريا إلا القليل جداً، وعلماء العراق كلهم إلا ما ندر وشذ، وكل علماء آسيا تقريباً، فهذه نسبة 97% من علماء الأمة، سوى جمهور علماء الجزيرة هم من يحرمون وقليل من الخليج، ولهم في رأيهم الاحترام والتقدير. ومع ذلك فمفتي الكويت والإمارات يقولون بحليته، بل قرأت للشيخ د. خالد المذكور في لقاء صحفي أنه يسمع لأم كلثوم، وكذا قرأت أيضاً للشيخ محمد الغزالي أن في بيته بيانو يتعلم أولاده العزف عليه.
والتحريم من الجزيرة له شفرة يجب فكها. لماذا حرمت الجزيرة (أقصد الغالبية، رغم الحجازيين كذلك لا يرون بهذا الرأي)، وفك شفرة هذا الموضوع بأن الجزيرة لا تعرف ولا تطرب للآلآت المعزوفة من قدم، فالناس بدو (بطباعهم) لا يعرفون الآلآت العازفة ولا يطربونها، كمثل اليوم عربي أصيل تعزف له الجاز، يستحيل أن يطرب له لو لم يسمعه من قبل. والنبي صلى الله عليه وسلم أباح اللآلآت الموسيقية ومنها الدف والطبل والإيقاع والطار، وهي آلآت موسيقية رئيسية في أي فرقة، بل وأباحها في المسجد وفي بيته، كما في الأحاديث الصحيحة، من غناء الجاريتين في بيته لعائشة وهو يسمع، وعند دخول أبوبكر بيته وإنكاره، رده النبي صلى الله عليه وسلم وصوبه. ولاحظ هذا غناء، وهذا سماع، وهذه امرأة تغني وفي بيت النبي صلى الله عليه وسلم. وحمل عائشة على ظهره وهي تشاهد الحبشة يلعبون بالمسجد، وطريقتهم هي التطبيل والتحرك بطريقة الرقص. واجتهد العلماء في تأويل هذا الحديث ولفه وليه ومنهم العز بن عبدالسلام - رحمه الله - في جعل هذا الموضوع أنه بالسلاح واللعب بالطبول والسلاح مندوب لأنه رمز القوة إلى ما سواها من التفسيرات الباردة والتي لا تستند إلى حكمة وعمق في تفسير الأحداث، ومع ذلك لم يوفقوا؛ فالدلالة واضحة في الأباحة، وتسمى في الاصطلاح سنة تقريرية أي أقرها النبي صلى الله عليه وسلم وجوزها.
وأنا أذكر شيخاً من زملائي وممن أكن له الاحترام أسرف مرة في ديوانية في تحريم الغناء والموسيقى، مع أن هناك من العلماء من روا الاجماع على جواز الغناء، أقصد بدون الموسيقى، بل منهم من كره عدم الغناء لكون النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من لم يتغى بالقرآن". أقول أسرف زميلي الشيخ في التحريم ثم جاء عند دليل وضع عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - يديه هكذا، يعني عندما سمع أحداً يغتي - وقال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت له: يا شيخ. متى فعل ابن عمر ذلك؟ والجواب الأغلب: بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ربما في زمن أبي بكر أو الأرجح في زمن عمر - رضي الله عنهما. فقلت: ومنكر بهذا الحجم الذي تراه يتركه أبوبكر وعمر يفسد في المدينة. فسكت الشيخ، وحاول التأويل بنصوص أخرى. وكل من تسمع منه التحريم الشديد قل له: لماذا ترك أبوبكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود في العراق وعمرو بن العاص في مصر هذا المنكر ولم يكسروه ويزيلوه؟! لماذا يمر ابن مسعود على رجل يعزف ويغني ويقول: ما أجمل صوته لو كان في قراءة القرآن. لماذا لم يكسره فهو الخليفة وحاكم العراق؟ بعدها ستعرف أن ديننا اليوم غير دين الصحابة آنذاك.
إن الصحابة كانوا قد تعلموا بقوة خلاف ما عليه العرب. العرب جلف مبرمجون لا يتغيرون، والإسلام تحدى أكبر خصلة فيهم، وغيرهم من خلال تغيير عمق في القناعات (الباراديم)، فهم يتبعون سادتهم وأبائهم ورهبانهم وأحبارهم، فحرضهم الإسلام على التغيير والتجديد وهمش أرث الماضي واتباع الأباء والأجداد والسلف، وشجع على التجديد والتطوير والعمران، فصار المسلمون آتذاك منفعة للعالم، هم اليوم في شغل التحريم وملاحقة بعضهم بعض ومقاطعة الكفار ومظاهرات ضد الأنظمة وجدل في دوائر مفرغة وجماعات عدة تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى. يندر أن تجد فيهم الإيجابي، حتى أن هاوكينز، مع تحفظي عليه شخصياً وعلى تقييمه، صنف المسلمين 190 بالعموم من 1,000 أي في قائمة السلبيين المضرين للعالم (أي رقم أقل من 200 مضر). وربما يكون كلامه فيه نظر لأننا اليوم ننتج 2% من انتاج العالم (قرابة 700 مليار دولار) معظمه نفظ، بينما نستهلك 5% من انتاج العالم. هذا يعني لو مات كل العرب فالعالم سوف يستفيد 3% انتاج فائض!
بالنسبة للموسيقي ليس هناك فرق بين العود والبيانو والدف. كلهم آلآت، وكلهم له نوتة، وكلهم معزوفات.
هناك مئات الأدلة على عدم تحريم الموسيقى والغناء، رغم أن الصح أن تثبت العكس؛ لأن الأصل في الأشياء الحلة.
أشكلت بعض الأحاديث مثل حديث منع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو وضع يديه على أذنيه أو نام وهو يسمع أو حديث "سيأتي قوم يستحلون .."، أو قول مفسر في الآية (سامدون) أي يغنون، والعلماء أمام هذا الفوج الكبير من الأحاديث والتفسيرات التي تبيح الغناء أضطروا لتأويل هذه الأحاديث؛ لأنه لا يعقل أن يحرمها النبي صلى الله عليه وسلم ثم جارية - أي بنت - تغني في بيته! فأما الحديث المذكور فهو حديث من ضمن أربعة أحاديث ردها جمهور العلماء في صحيح البخاري، بل أن البخاري لم يرويه مسنداً، فهو حديث معلق،يعني لم يسلسله البخاري إلى الصحابي، رواه دون ذكر كامل سنده، وهذا معروف عند العلماء أنه حديث ضعيف لا يعتد به. ولو صح عند البخاري لرواه من ضمن المتون ولأسند الحديث برجاله. لماذا فعل ذلك؟ الله أعلم. ورغم أن الحديث اجتهد الإمام ابن حجر في "فتح الباري" بتوصيله وإسناده عن طريق الإسماعيلي مرة وعن طرق أخرى إلا أنه يقى حديثاً مردوداً عند الجمهور، قال عنه الإمام الدار قطني "هذا الحديث مضطرب سنداً ومتناً"، وفصل في تخريجه والحكم عليه أخونا الشيخ والمحدث الفاضل عبدالله الجديع، ورده. والمشكلة أن الناس تتخن في الإستدلال فيه. نقول حتى لو ثبت، فيأول بمسألتين: الأولى قوله "يستحلون"، فيستحلون ليست بحللون، والنبي صلى الله عليه وسلم بليغ لا يحتاج إلى اللغة الركيكة في التوهيم، ويستحلون على وزن يستفعلون اي يصطنعون ويكثرون ويجعلون ذلك ديدنهم. ولو أراد يحلون لقال، وهي أبلغ، يحلون. والثانية كونه مجتمع بأمور أخرى. فاالاستحلال وارد من باب الجمع بين هذه كلها، والقصد فيها السيء منه، لأن الحر اصلاً حلال إذا كان بزواج وعلاقة شرعية صحيحة، لكنه حرام بغيره. والحرير كذلك حلال للمرأة. والمعازف قلنا أنها موجودة في زمن البني صلى الله عليه وسلم، وقد استمع لها وعزفت في المدينة والعراق؛ لأن الإيقاع والطبل والدف والطار معزوف. وفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا يوجد كيبورد أو بيانو أو ساكسفون بل لم تخترع بعد. موجود ناي ودفوف بسيطة. فأي االمعازف قصدها النبي صلى الله عليه وسلم؟
والمقصود، وهو التأويل الصحيح، أن الغناء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما في زمننا سيء وسلبي يدعو للتفاخر في الأنساب والدعوة للكراهية والحروب، لذا فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يرده ويصد عنه ويغلق أذنيه من سماعه، وهذه هي الإيجابية الكاملة في تعليم أصحابه. لكنه لا يفعل ذلك مع الجارية التي تغني غناء شجياً في بيته ومع الأحباش في المسجد ومع من جاءه يشعر في حبه لسعاد يوم قال: بانت سعاد وقلبي اليوم متبول، بل أن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنه وكان الحكم عليه بالإعدام، فانظر إلى فضل الفن في إسعاد النبي صلى الله عليه وسلم وتخليص الرجل من الإعدام وانظر إلى الخوارج الذين لا يسمعون الغناء ولا يطربون له بل حتى لا يتجملون بقراءة القرآن بأصواتهم وماذا جنوا على الأمة. بل انظر اليوم إلى غالب الذين لا يستمعون إلى الغناء والموسيقى في طريقة إنكارهم وبؤسهم في حياتهم وعنفهم وردودهم .. وهذا كله يدل على الجفاف الذي يشعرونه ويعيشونه. خذ جولة في النت واقرأ ردودهم ثم قيم هل هذا الطبع الذي تريد في الحياة؟ هل هذه الحياة التي تريد؟ ولا يعني هذا كلهم لكن ربما أغلبهم.
أنا حريص أن يكون أبنائي يسمعون الغناء والموسيقى ويحغظون القرآن الكريم. ولو خيرت بين أن يكون ابني مغني يغني أغاني هايفة وبين أن يكون متطرف يشد على الناس وينفرهم لاخترت الأول، رغم أني أعتقد أن في الأمر فسحة، ويمكن لي ولأولادي أن يكونوا في الوسط يسمعون ما يطرب لكنه لا يسيء للمعنى العام في الإيجابية والحياة.
انا اقول لمن يرى بحرمة الموسيقى والغناء فليسعكم ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والخلفاء. لقد تركوه ووسعهم وجوده في المجتمع فليسعكم ذلك، وبهذا تعملون بالسنة.
وأقول لمن يرى بأن المحرمين يفسدوا في أذواق الناس ويقودونهم إلى التشدد والكراهية والجلافة فليسعكم وجود التنوع في المجتمع وذلك يساعد على الميزان والتوازن.
أنا شخصياً لا أعتد بكلام ابن القيم في كتابه السماع ولا اعتد بكلام شلتوت وابن حزم في فتاويهم.
وأقول بقول الأكارم الذين قبلوا هذا وذاك ولم ينكروا على هذا وذاك.
وأنصح بقراءة صاحب الفطنة والشيخ المحدث الجليل عبدالله الجديع الذي فند كل هذه المغالطات لكن بطريقة شرعية ومن الأحاديث.
كثيرون يهمهم الجانب الشرعي في أي مسألة يقومون فيها، وأنا منهم، رغم أن اعتقادي أن هذا المسلك فيه نوع من التردد؛ لأن الأصل في الإسلام أنه ينظر إلى الدنيا بجمالها ويدعم الحياة والعمران فيها، ويرى الأصل في الأشياء الحلة.
وموضوع الغناء موضوع قديم كتب فيه آلآف المؤلفين، ولقد قرأت ما يزيد عن ألف مصدر في هذا الموضوع، من بين فتوى وكتاب ومقالة ورسالة. وكان من أجملها ما كتبه د. حمد الهباد عميد معهد الدراسات الموسيقية العليا في الكويت، حيث ناقش الأراء الشرعية في الموسيقى، وهي باعتقادي أول رسالة جادة ومحترفة تناقش الرأي الشرعي من شخص موسيقي؛ لأن العادة مشايخ يحرمون الموسيقى، لكن هنا موسيقي يناقش الأراء الشرعية، وهو ما ينظر إليه العاقل؛ لأن أغلب الناس يقرأ لمن يقول برأيه فقط. ومن جمال هذه الرسالة أنها ناقشت كل الأراء والأدلة الشرعية اوفندتها تفنيداً شرعياَ.
وخلاصة القول أن رأي الشرع في الغناء، بالنسبة لي واضح، لكن آراء الناس فيه متضاربة؛ فمنهم من يرى بحرمته حرمة شديدة حتى وصل في الإمام اين القيم - رحمه الله - أن جعله أشد حرمة من الخمر. واستدلوا بذلك بأراء وأدلة واهية غالبها لا يصح. ومنهم من يرى بكراهيته واحتجوا بأنه رفيق الفاسدين غالباً وليس الصالحين، وحجتهم مثل من قبلهم، ومنهم من أباح مع التحفظ وشرط فيه القول والكلام والفعل، ولهم في أدلتهم قوة ورأيهم عقل، ومنهم من حسنه، وأستدلوا بأراء تعدت المائة شرعية وعقلية، ومنهم من رأى فساد من لا يسمعه، كونه يخالف الفطرة، وشددوا على من حرمه، كقول الإمام الأعظم شلتوت شيخ الأزهر - رحمه الله - من لا يستمع إلى الغناء "جلف حمار" يقصد بطبعه وسلوكه، وقول ابن حزم - رحمه الله - في سوء طباع من لا يسمعه.
ما بين الرأي الذي يقول أنه فاسد مفسد وبين القول الذي يقول أن من لا يسمعه جلف حمار، وكل هذه الأقوال من أشخاص معتبرين شرعاً وفي تاريخنا، سعة.
أنا شخصياً مع رأي الجمهور والأغلبية بأنه مباح. بل أنا أميل إلى من قالوا بضرره على المجتمع لو أزيل؛ لان المجتمع، وهذا من باب متخصص، لو لم يجد المنفس لذلك هنا فسوف يلجأ إلى العنف، كما حصل في صدر الخلافة العباسية، والتقتيل الذي حدث، وكما حصل في حكم طالبان وما جره من ضرر على المسلمين وغزو من الغرب وتشريد للملايين، وكما حصل في حكم الفاطميين، حتى جاء من يسمع الغناء ويطربه وهو صلاح الدين الأيوبي فأزال الغمة. أنا مع رأي أنه مضرة كبيرة، والناس عندما تنشأ على الجلافة تجلف، لكني أقول أن المتدينين أوجدوا بدائل منها ما يسمى بالأناشيد، ومنها ما يسمى بالسمر الثقافي والأمسيات، وهي برأيي بدائل جيدة، وقد تغني إذا كانت مصحوبة بنية طيبة. لكن ما لا يسمع لا غناء ولا أناشيد ولا سمر فالقول فيه كثير.
لما قلت الجماهير والأغلبية قصدت، فنحن الدارج عندنا الأعتقاد بأن الجمهور يحرم الغناء، وهذا غير صحيح، فعلماء مصر كلهم إلا قليلاً يبيحونه، وعلماء الأندلس جميعاً، وعلماء المغرب، وعلماء سوريا إلا القليل جداً، وعلماء العراق كلهم إلا ما ندر وشذ، وكل علماء آسيا تقريباً، فهذه نسبة 97% من علماء الأمة، سوى جمهور علماء الجزيرة هم من يحرمون وقليل من الخليج، ولهم في رأيهم الاحترام والتقدير. ومع ذلك فمفتي الكويت والإمارات يقولون بحليته، بل قرأت للشيخ د. خالد المذكور في لقاء صحفي أنه يسمع لأم كلثوم، وكذا قرأت أيضاً للشيخ محمد الغزالي أن في بيته بيانو يتعلم أولاده العزف عليه.
والتحريم من الجزيرة له شفرة يجب فكها. لماذا حرمت الجزيرة (أقصد الغالبية، رغم الحجازيين كذلك لا يرون بهذا الرأي)، وفك شفرة هذا الموضوع بأن الجزيرة لا تعرف ولا تطرب للآلآت المعزوفة من قدم، فالناس بدو (بطباعهم) لا يعرفون الآلآت العازفة ولا يطربونها، كمثل اليوم عربي أصيل تعزف له الجاز، يستحيل أن يطرب له لو لم يسمعه من قبل. والنبي صلى الله عليه وسلم أباح اللآلآت الموسيقية ومنها الدف والطبل والإيقاع والطار، وهي آلآت موسيقية رئيسية في أي فرقة، بل وأباحها في المسجد وفي بيته، كما في الأحاديث الصحيحة، من غناء الجاريتين في بيته لعائشة وهو يسمع، وعند دخول أبوبكر بيته وإنكاره، رده النبي صلى الله عليه وسلم وصوبه. ولاحظ هذا غناء، وهذا سماع، وهذه امرأة تغني وفي بيت النبي صلى الله عليه وسلم. وحمل عائشة على ظهره وهي تشاهد الحبشة يلعبون بالمسجد، وطريقتهم هي التطبيل والتحرك بطريقة الرقص. واجتهد العلماء في تأويل هذا الحديث ولفه وليه ومنهم العز بن عبدالسلام - رحمه الله - في جعل هذا الموضوع أنه بالسلاح واللعب بالطبول والسلاح مندوب لأنه رمز القوة إلى ما سواها من التفسيرات الباردة والتي لا تستند إلى حكمة وعمق في تفسير الأحداث، ومع ذلك لم يوفقوا؛ فالدلالة واضحة في الأباحة، وتسمى في الاصطلاح سنة تقريرية أي أقرها النبي صلى الله عليه وسلم وجوزها.
وأنا أذكر شيخاً من زملائي وممن أكن له الاحترام أسرف مرة في ديوانية في تحريم الغناء والموسيقى، مع أن هناك من العلماء من روا الاجماع على جواز الغناء، أقصد بدون الموسيقى، بل منهم من كره عدم الغناء لكون النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من لم يتغى بالقرآن". أقول أسرف زميلي الشيخ في التحريم ثم جاء عند دليل وضع عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - يديه هكذا، يعني عندما سمع أحداً يغتي - وقال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت له: يا شيخ. متى فعل ابن عمر ذلك؟ والجواب الأغلب: بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ربما في زمن أبي بكر أو الأرجح في زمن عمر - رضي الله عنهما. فقلت: ومنكر بهذا الحجم الذي تراه يتركه أبوبكر وعمر يفسد في المدينة. فسكت الشيخ، وحاول التأويل بنصوص أخرى. وكل من تسمع منه التحريم الشديد قل له: لماذا ترك أبوبكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود في العراق وعمرو بن العاص في مصر هذا المنكر ولم يكسروه ويزيلوه؟! لماذا يمر ابن مسعود على رجل يعزف ويغني ويقول: ما أجمل صوته لو كان في قراءة القرآن. لماذا لم يكسره فهو الخليفة وحاكم العراق؟ بعدها ستعرف أن ديننا اليوم غير دين الصحابة آنذاك.
إن الصحابة كانوا قد تعلموا بقوة خلاف ما عليه العرب. العرب جلف مبرمجون لا يتغيرون، والإسلام تحدى أكبر خصلة فيهم، وغيرهم من خلال تغيير عمق في القناعات (الباراديم)، فهم يتبعون سادتهم وأبائهم ورهبانهم وأحبارهم، فحرضهم الإسلام على التغيير والتجديد وهمش أرث الماضي واتباع الأباء والأجداد والسلف، وشجع على التجديد والتطوير والعمران، فصار المسلمون آتذاك منفعة للعالم، هم اليوم في شغل التحريم وملاحقة بعضهم بعض ومقاطعة الكفار ومظاهرات ضد الأنظمة وجدل في دوائر مفرغة وجماعات عدة تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى. يندر أن تجد فيهم الإيجابي، حتى أن هاوكينز، مع تحفظي عليه شخصياً وعلى تقييمه، صنف المسلمين 190 بالعموم من 1,000 أي في قائمة السلبيين المضرين للعالم (أي رقم أقل من 200 مضر). وربما يكون كلامه فيه نظر لأننا اليوم ننتج 2% من انتاج العالم (قرابة 700 مليار دولار) معظمه نفظ، بينما نستهلك 5% من انتاج العالم. هذا يعني لو مات كل العرب فالعالم سوف يستفيد 3% انتاج فائض!
بالنسبة للموسيقي ليس هناك فرق بين العود والبيانو والدف. كلهم آلآت، وكلهم له نوتة، وكلهم معزوفات.
هناك مئات الأدلة على عدم تحريم الموسيقى والغناء، رغم أن الصح أن تثبت العكس؛ لأن الأصل في الأشياء الحلة.
أشكلت بعض الأحاديث مثل حديث منع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو وضع يديه على أذنيه أو نام وهو يسمع أو حديث "سيأتي قوم يستحلون .."، أو قول مفسر في الآية (سامدون) أي يغنون، والعلماء أمام هذا الفوج الكبير من الأحاديث والتفسيرات التي تبيح الغناء أضطروا لتأويل هذه الأحاديث؛ لأنه لا يعقل أن يحرمها النبي صلى الله عليه وسلم ثم جارية - أي بنت - تغني في بيته! فأما الحديث المذكور فهو حديث من ضمن أربعة أحاديث ردها جمهور العلماء في صحيح البخاري، بل أن البخاري لم يرويه مسنداً، فهو حديث معلق،يعني لم يسلسله البخاري إلى الصحابي، رواه دون ذكر كامل سنده، وهذا معروف عند العلماء أنه حديث ضعيف لا يعتد به. ولو صح عند البخاري لرواه من ضمن المتون ولأسند الحديث برجاله. لماذا فعل ذلك؟ الله أعلم. ورغم أن الحديث اجتهد الإمام ابن حجر في "فتح الباري" بتوصيله وإسناده عن طريق الإسماعيلي مرة وعن طرق أخرى إلا أنه يقى حديثاً مردوداً عند الجمهور، قال عنه الإمام الدار قطني "هذا الحديث مضطرب سنداً ومتناً"، وفصل في تخريجه والحكم عليه أخونا الشيخ والمحدث الفاضل عبدالله الجديع، ورده. والمشكلة أن الناس تتخن في الإستدلال فيه. نقول حتى لو ثبت، فيأول بمسألتين: الأولى قوله "يستحلون"، فيستحلون ليست بحللون، والنبي صلى الله عليه وسلم بليغ لا يحتاج إلى اللغة الركيكة في التوهيم، ويستحلون على وزن يستفعلون اي يصطنعون ويكثرون ويجعلون ذلك ديدنهم. ولو أراد يحلون لقال، وهي أبلغ، يحلون. والثانية كونه مجتمع بأمور أخرى. فاالاستحلال وارد من باب الجمع بين هذه كلها، والقصد فيها السيء منه، لأن الحر اصلاً حلال إذا كان بزواج وعلاقة شرعية صحيحة، لكنه حرام بغيره. والحرير كذلك حلال للمرأة. والمعازف قلنا أنها موجودة في زمن البني صلى الله عليه وسلم، وقد استمع لها وعزفت في المدينة والعراق؛ لأن الإيقاع والطبل والدف والطار معزوف. وفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا يوجد كيبورد أو بيانو أو ساكسفون بل لم تخترع بعد. موجود ناي ودفوف بسيطة. فأي االمعازف قصدها النبي صلى الله عليه وسلم؟
والمقصود، وهو التأويل الصحيح، أن الغناء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما في زمننا سيء وسلبي يدعو للتفاخر في الأنساب والدعوة للكراهية والحروب، لذا فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يرده ويصد عنه ويغلق أذنيه من سماعه، وهذه هي الإيجابية الكاملة في تعليم أصحابه. لكنه لا يفعل ذلك مع الجارية التي تغني غناء شجياً في بيته ومع الأحباش في المسجد ومع من جاءه يشعر في حبه لسعاد يوم قال: بانت سعاد وقلبي اليوم متبول، بل أن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنه وكان الحكم عليه بالإعدام، فانظر إلى فضل الفن في إسعاد النبي صلى الله عليه وسلم وتخليص الرجل من الإعدام وانظر إلى الخوارج الذين لا يسمعون الغناء ولا يطربون له بل حتى لا يتجملون بقراءة القرآن بأصواتهم وماذا جنوا على الأمة. بل انظر اليوم إلى غالب الذين لا يستمعون إلى الغناء والموسيقى في طريقة إنكارهم وبؤسهم في حياتهم وعنفهم وردودهم .. وهذا كله يدل على الجفاف الذي يشعرونه ويعيشونه. خذ جولة في النت واقرأ ردودهم ثم قيم هل هذا الطبع الذي تريد في الحياة؟ هل هذه الحياة التي تريد؟ ولا يعني هذا كلهم لكن ربما أغلبهم.
أنا حريص أن يكون أبنائي يسمعون الغناء والموسيقى ويحغظون القرآن الكريم. ولو خيرت بين أن يكون ابني مغني يغني أغاني هايفة وبين أن يكون متطرف يشد على الناس وينفرهم لاخترت الأول، رغم أني أعتقد أن في الأمر فسحة، ويمكن لي ولأولادي أن يكونوا في الوسط يسمعون ما يطرب لكنه لا يسيء للمعنى العام في الإيجابية والحياة.
انا اقول لمن يرى بحرمة الموسيقى والغناء فليسعكم ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والخلفاء. لقد تركوه ووسعهم وجوده في المجتمع فليسعكم ذلك، وبهذا تعملون بالسنة.
وأقول لمن يرى بأن المحرمين يفسدوا في أذواق الناس ويقودونهم إلى التشدد والكراهية والجلافة فليسعكم وجود التنوع في المجتمع وذلك يساعد على الميزان والتوازن.
أنا شخصياً لا أعتد بكلام ابن القيم في كتابه السماع ولا اعتد بكلام شلتوت وابن حزم في فتاويهم.
وأقول بقول الأكارم الذين قبلوا هذا وذاك ولم ينكروا على هذا وذاك.
وأنصح بقراءة صاحب الفطنة والشيخ المحدث الجليل عبدالله الجديع الذي فند كل هذه المغالطات لكن بطريقة شرعية ومن الأحاديث.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق